1يندرج موضوع هذا المقال في نطاق اهتمامنا بالآداب والفنون الأمازيغية، من جهة كونها موضوعا للتفكير والتأمل، ومجالا لإنتاج الخطاب، وتحديدا الخطاب الواصف، الراصد لبعض الظواهر الملازمة لهذه الآداب في بعديها الفني والوظيفي. فالنسق الاجتماعي والثقافي المؤطِّر لنشوء الإبداع الأمازيغي وتَشكّله، يجعل الفن والإبداع عموما ممارسة مُركّبة يتقاطع فيها الجمالي مع جوانب أخرى من الحياة العامة والخاصة، للفرد والجماعة، مما يجعل الأثر الفني أو الأدبي نصّا يوازي المجتمع، يتموّج بتموج تضاريسه، وتتفاعل كيمياؤه بتفاعل كيمياء المبدع داخل نسقه. ويؤشر الوضع الاعتباري للمبدع في وسطه الاجتماعي - ونقصد هنا المجتمع الأمازيغي الموسومة ثقافته بالشفاهية - على مكانة خاصة لا يماثلها سوى وضْع النخب التي تستمد قيمتها مما تتمتع به من سلطة (دينية، سياسية، معرفية ...) في الهرم الاجتماعي. ولاشك في أن المبدع الأمازيغي كان يستشعر بشكل دائم أهمية الأدب من حيث نوعُه ووظيفتُه، وما يمكن أن ينهض به من أدوار على مستوى تشييد الإنتاج الرمزي والقيمي للمجتمع. في هذا السياق العام، يمكن الوقوف على مسألة التناقل transmission بوصفها آلية جوهرية في ضمان استمرار النوع والوظيفة في المجال الفني والأدبي الأمازيغي، اعتمادا على عملية استقصاء النماذج الدالة على الوعي بأهمية آلية التناقل في المجال الأمازيغي، ورصْد بعض التجليات التي تُظهر فعاليتها على المستوى التداولي.
2ونفترض بدءا أن المجتمع الأمازيغي غني بنماذج التناقل في ميادين الحياة المختلفة، خاصة في ما يتصل بتناقل الفنون والمهارات والخبرات والأنظمة الرمزية، أفقيا وعموديا. وبالموازاة مع وجود أشكال التناقل المتنوعة، والوعي العميق بأهميتها في البناء الاجتماعي عامة، ثمة تحديات وعوامل تضع هذه النماذج التقليدية من التناقل أمام تحدي الفعالية والصمود والاستمرارية، في ظل مجتمع يتأثر بتحولات العالم المادية والقيمية.
3فالتناقل عملية تمرير ونقلٍ قصديٍّ لمضمون ما (فنون، مهارات، قيم، رموز، نصوص، معلومات...)، تتم بين أشخاص أو أجيال أو ثقافات أو أزمنة أو فضاءات أو أنظمة... وتتنوع مجالات التناقل بتنوع المضمون: الثقافة، البيولوجيا، المعلوميات، عالم الاتصالات، المجال العسكري... فسيرورة le processus التناقل تشكل لحظة الوصل بين الماضي والمستقبل، مما يعني أنها عملية تُنجَز في إطار زمني معين، وتقتضي مستوى من الوعي بها وبما تستلزمه من قواعد خاصة حين يتعلق الأمر بتناقل الأنظمة الرمزية داخل نسق ثقافي ممتد في الزمان وفي المجال. ويعني هذا أن سيرورة التناقل ليست مجرد نقْل أو امتلاء بالمعنى الحَرفي، وإنما هي بحث دائم عن استمرار المضمون وتمدده وضمان تمكين الآخر منه. وبهذا المعنى تنحاز سيرورة التناقل إلى بقية الأنظمة المولّدة للعلامات في المجتمع: تناقل خبرة معرفية أو فنية بمثابة إعادة إنتاج لتلك الخبرة في سياق تداولي محكوم بمؤثرات المجال.
4وإذا أنعمنا النظر في التاريخ الثقافي والاجتماعي للمجتمع الأمازيغي، نجد أن مختلف الأنظمة الرمزية والمادية التي ينتجها الإنسان، والتي تؤطر حركته في المجال، تكتسي صفة الديمومة والاستمرار بشكل ينم عن وجود حالة من التضامن والتماسك الاجتماعيين بين الأجيال، بحيث يحرص السابقون على تنقيل ممتلكاتهم الرمزية والمعنوية إلى اللاحقين، ضمانا لاستمرار الرؤى والقيم والأشكال والأنواع... وفقا لما تقتضيه سياقات التناقل وشروطه التاريخية والاجتماعية. ولَمّا كان اهتمامنا سينصب في هذا المقام على التناقل في مجال الإبداع الأدبي والفني، فإنه لا ضير من الإشارة إلى أن مجالات التناقل ونطاقاته في التداول الأمازيغي شتّى، يتصل بعضها بالمعارف التي تساعد في إقامة العمران (بالمعنى الخلدوني)، والبعض الآخر يتعلق ببناء فكر أو خيال الإنسان.
- 1 على اعتبار أن الأشكال، في إطار نظرية الجشطالت أو نظرية الأشكال، تعكس منظور أصحابها ورؤيتهم إلى الأش (...)
- 2 في سياق النظريات والاجتهادات التي تختص في تفسير الأشكال والرموز والأيقونات البصرية، وتأويلها تأويلا (...)
- 3 يندرج هذا المفهوم في صلب نظرية العلامة، ويدل على سيرورة تَشَكّل المعنى أو الدلالة من منظور شارل سان (...)
5ويبدو أن مجال المهارات والخبرات والحِرف في المجتمع الأمازيغي هو مجال التناقل بامتياز: فمهارات الصناعات اليدوية وخبراتها، بمختلف أنواعها وأشكالها، يتم تمريرها للغير بواسطة التعلم والدربة والممارسة. ولأن الأمازيغ حريصون على استمرار نظامهم القيمي والرمزي في المجتمع فإنهم يعمدون إلى جعل منتوجاتهم الفنية المادية، كالزرابي مثلا، حاملة للأشكال والرموز الدالة على ثقافتهم أو هويتهم أو رؤاهم1. بل إن العمارة عموما (سواء في إطار نظام جماعي "لقصور" lqsur، أو المساكن الفردية) اندرجت ضمن صيرورة le devenir التناقل، بحيث لا تخلو بدورها من مؤشرات دالة على قيم الأمازيغ وتمثلاتهم للعالم2، باعتبار أن هذه الأشكال الرمزية في نهاية المطاف ليست سوى وسيط بين الإنسان والعالم بتعبير الفيلسوف أرنست كاسيرر Ernst Cassirer. إن مجموع هذه المحمولات المرتبطة بالمعارف والرموز تضعنا أمام سيموزيس دلالي3 sémiose/semiosis، بالنظر إلى أنها علامات تؤوّل ضمن سيرورة تناقلية تخضع للإنتاج والتشفير codage وعملية الفكّ (فكّ التشفير) décodage.
- 4 تكاد تكون هذه المسألة مشتركة بين كل الشعوب والثقافات، خاصة في المجتمعات القروية.
6وكما يتم تناقل الخبرات والمهارات، يتم أيضا تناقل الأشكال الرمزية المعبّرة عن المتخيل الجماعي للأمازيغ شفاهة، كما هو الحال بالنسبة للحكايات أو السرود الشفاهية. ويعدّ الوسط الأسري الفضاء الأمثل لتناقل هذه السرود: فالجدات يحرصن على تنقيل المحكيات إلى الأبناء والأحفاد، في مجال حميمي (البيت) يتم فيه التواصل الثقافي والاجتماعي والنفسي بين ثلاثة أجيال في الغالب، يجسدها كل من الجد/الجدة والأبناء والحفدة، ووفقا لعادات وطقوس تشكّل سَنن تَلقّي الحكْي في التداول الأمازيغي4. وبفضل هذا الفضاء وما يكتنفه من قواعد التلقي، تمكنتْ ذاكرة الأمازيغ من حفظ سجلات مهمة وغزيرة من الحكايات الشفاهية التي رسمَت جزءا من تاريخ المتخيل الأمازيغي. ومما يزيد الحكايات أهمية على مستوى التناقل أنها ليست مجرد سرود للتسلية والمتعة، وإنما هي نظام ناقل لقواعد المجتمع وقيمه، ينطوي على وظيفة اجتماعية تستفيد من عناصر التأثير المصاحبة للحكي وفعالية خطابه الساحر.
- 5 كثير من النصوص المؤسسة للثقافة الدينية في الوسط الأمازيغي، تمّ تلقيها وتناقلها في هذه الفضاءات العا (...)
7لم يكن التواصل الشفاهي الأداةَ الوحيدة المهيمنة على نسق التناقل في مجال الثقافة الأمازيغية، بل كانت الكتابة أيضا وسيلة حاضرة في هذه السيرورة، خاصة لدى النخب الدينية والعلمية خلال القرون الماضية. نحيل في هذا السياق على النصوص والمعارف المحمولة في المخطوطات الأمازيغية، باعتبارها من الحوامل المهمة في تناقل المعرفة بمختلف فروعها، مع الإشارة إلى أن المادة المحمولة في مجملها كانت تُتداوَل شفاهة في الأوساط الأمازيغية. ولولا هذه المخطوطات، التي تُعد بحق وسيلة للتواصل والتناقل الثقافيين، لاندثر الكثير من متون الثقافة الأمازيغية بفعل التحولات الثقافية والاجتماعية التي أثّرت بشكل عميق في بنيان العلاقات بين أفراد المجتمع، خاصة في البيئات القروية. ولعل أدبيات التلقي في الوسط التقليدي الأمازيغي تعكس الوظائف الاجتماعية والبيداغوجية التي اكتسبها المخطوط في ضمان التناقل، وتجسير أوصال المعرفة بين الأجيال داخل مؤسسات التلقي (المساجد، الزوايا، المدارس العتيقة، مجالس العلم والمذاكرات، بيوتات الفقهاء والعلماء والصلحاء...)5.
8ومما يسترعي الانتباه في التراث الأمازيغي الفني والأدبي، أن التناقل يحضر بوصفه آلية تتأسس عليها حياة الإبداع والفن، من جهةِ الحرصِ على استمرار الأشكال والأنواع ومقاومة تلاشيها، ومن جهةِ التواصلِ بهذه الأنواع أو تناقل المعارف والخبرات بها. ولولا ما أبدعه الأمازيغ من وسائل وأشكال تضمن ديمومة التناقل لتوقفت الكثير من الأنظمة الناقلة للقيم والرموز في المجتمع، وفي مقدمتها أنظمة الشعر والحكي على سبيل التمثيل لا الحصر.
9تمثل مسألة التلمذة أو تعلّم النوع الشعري مظهرا من مظاهر الحرص على تناقل الموهبة الفنية والخبرة الشعرية، وتمريرها بشكل واع إلى الغير أفقيا (بين الأفراد من الجيل الواحد) وعموديا (بين الأجيال). نحيل في هذا الباب على ظاهرة الأُسر الفنية والشعرية التي يتناقل أفرادها موهبة الإبداع ويتوارثونها عبر آليات التلمذة والتعلّم والدُّربة والممارسة. نذكر منها: أسرة ؤلحانافي بمنطقة طاطا، المكونة من الشاعرين عمر ؤلحانافي الأب، وبوسلام ؤلحانافي الابن؛ وأسرة شيلوش بتامانارت (طاطا)، وتتكون من الشاعرين لحسن شيلوش الأب، ومبارك شيلوش الابن؛ وأسرة بيضني بإسافّن (طاطا)، وتتكون من الشاعرين محمد بيضني الأب، وعلي بيضني الابن؛ وأسرة جاخا بسكتانة (إقليم مراكش)، وتتكون من الشعراء لحسن جاخا الجد، ومحمد جاخا الأب، ولحسن جاخا الحفيد؛ وأسرة برغوت (الناصري) بمزوضة (إقليم شيشاوة)، وتتكون من الشعراء محمد الناصري الجد، وعمر الناصري الابن، والمختار والحسين الناصري العمّان، والحسن وإبراهيم الناصري الحفيدان؛ وأسرة أساكني (إقليم تارودانت)، وتتكون من الشعراء الحسين أساكني، وحماد أساكني العم، وعلي أساكني الأخ، وخديجة تاساكنيت بنت الأخ... ويبقى أبرز مثال يمكن الاستدلال به في الحرص على تناقل فن الشعر وتمكينه في نفوس أفراد الأسرة بأجيالها المختلفة، أسرة أيت ئغيل بأقا جنوب المغرب. امتد الشعر في هذه الأسرة عبر ثلاثة أجيال، يمثلها:
-
- 6 لمزيد من التفاصيل، يمكن الرجوع إلى دراسة ل"Kenneth Brown" بعنوان "Violence and Justice in the Sûs :(...)
حمّاد ؤعلي ئغيل الجدّ ، الذي عاش في القرن التاسع عشر، وعُرف بملاحمه الشعرية الموثقة للمعارك والأحداث الاجتماعية في عهده. من أشهرها خراب مدينة تامدولت بأقا، والحرب بين قبيلة تازروالت وقبيلة أولاد جرار سنة 1874م، وعام المجاعة سنة 1878م، والمعركة الواقعة بين أكَرض والقصبة سنة 1882م، ومعركة ئشت سنة 1900م...6. توفي سنة 1912م، عن سن قاربت المائة عام.
-
- 7 محمد المختار السوسي، المعسول، مطبعة النجاح، الدار البيضاء، 1961، ج 16، ص 261.
- 8 هناك روايات أخرى تُرجع وفاته إلى سنة 1943 و1949.
جامع بن حمّاد ئغيل الإبن ، المزداد سنة 1869م. ذَكر المختار السوسي أنه "من قرية توزونين من أقّا. نشأ في بيت شعراء متسلسلين، وقد عرفنا منهم ثلاثة حمّادا وجامعا ومحمد بن جامع. وقد رفرفت عليهم رايات الشعر الشلحي حتى غبـروا في وجوه مسابقيهم في ميادين الإنشادات"7. توفي جامع سنة 1387ه/ 1967م تقريبا8.
-
- 9 كنيث براون وعبد الرحمان لخصاصي، "نكبة كل إنسان، زلزال أكَادير، قصيدة أمازيغية (تاشلحيت)، مجلة المنا (...)
موحمّاد بن جامع بن ئغيل الحفيد، المتوفى بداية السبعينات من القرن الماضي. لم تكن شهرته تساوي شهرة أبيه وجده، إلا أنه ترك بصمته في تاريخ الشعر الأمازيغي الشفوي، من خلال النصوص الشعرية التأريخية التـي أبدعها، أو عبر محاورته لجيل من الشعراء المبرزين في شعر أحواش، من قبيل مبارك بن زيدة المتوفى سنة 1973م، وشاعر توزونين محمد ؤحماو المتوفى سنة 1972م... ومما اشتهر به موحماد بن جامع، قصيدته في رثاء مدينة أكَادير والمتمحورة حول وقائع الزلزال الذي أصاب المدينة سنة 1960م، والتي دونها ووثقها كينيت براون Kenneth Brown، بعد سماعها منه مباشرة، خلال إنجازه لأبحاثه بمنطقة جبل باني سنة 1970م9.
- 10 محمد المختار السوسي، المعسول، مطبعة النجاح الدار البيضاء، 1961، جزء 16، ص 261.
- 11 م، ن، ص 261.
10وبالعودة إلى سيرة هذه الأسرة الشعرية، نجدها تجسّد نموذجا واضحا في تناقل الشعر عبر آليات يحرص من خلالها الشاعر / الأستاذ على نقل خبرته الإبداعية إلى الابن الشاعر / التلميذ. فقد كان الشاعر حمّاد ئغيل، الذي اعتاد أن يجول في البلدان، فتُقام له ملاعب، يتقدّم فيها فيُتلقى من قصائده، أو يُواقِفُ فيها شاعرا آخر يتجاوب بديهة معه10، يحرص على تكوين ابنه جامع، وصقل موهبته الشعرية، فكان يرافقه في أسفاره وجولاته خلال الدواوير والبوادي في سوس ودرعة. فقد ذكر محمد المختار السوسي أن حمّادا "كان إذ ذاك يدرب ولده جامعا، فيواقِفُه في ميدان اللعب، فيتجاوب معه حتى خرّجه شبيها له"11. إن المصاحبة هنا تعبير عملي عن عادة التلمذة في ميدان الشعر، وتكون بقصد صقل موهبة الابن وجعله يواجه قدَر الإبداع، خاصة حين يجد نفسه أمام الناس يتحلّقون حوله ويتلهفون لسماع شعره. فهنا يجد الابنُ نفسَه مضطرا إلى تفجير طاقاته الإبداعية من أجل مواجهة الوضعيات الصعبة التي يوضع فيها. إنها ممارسة تتم داخل سيرورة التناقل من أجل تخريج نماذج الشعراء الذين سيحملون لواء الشعر واستمراره.
- 12 ارتأينا الاحتفاظ بالنص الشعري بلغته الأصلية (الأمازيغية) دون اللجوء إلى الترجمة، وذلك حفاظا على جما (...)
11ومن مظاهر الحرص على تمرير الشعر وتوريثه للأبناء وأفراد الأسرة الصغيرة، تحويل الشاعر حمّاد ئغيل جلساته مع أسرته إلى لقاءات للتمرّن على النَّظْم والإبداع، واستعمال جملة من الحيل البيداغوجية لتحفيز ذويه على نهْج مسلك الشعر. فمما تَذْكره بعض المصادر الشفاهية أنّ حمّادا جلس مع أسرته يتناولون وجبة من اللحم، فقال لزوجته وأبنائه: "من أراد أن ينال نصيبه من اللحم فعليه أن يَنْظم بيتا من الشعر أو بيتين بالمناسبة". فبدأ بنفسه وقال12:
وانّا ئكَان أمازّال ياسي تانّا ران
ها يّي ؤسيغ ختا د أر تانّا غ ئـصاحان
وقالت له ابنته عائشة:
ها يّي غ دار ؤزركَ أ يْغ ؤر ئـتّو واوال
وانّا تنت ياطّان أد ؤر ئـتّو يارّاو نس
وتلتها زوجته، فقالت:
نكّي ئـقّادّا يّي واضو نّس ئـغ تّ ؤر ؤفيغ
نكّي يودا يّي واضو نس ئلّـي غ أ سّنواغ
وختم ابنه جامع قائلا:
تيفيّـي تكَا زو د لجنت كو يان ئـرا تنت
ئـسّن نيت والّي تّ ئـبّين ما ف أ تنت أطّان.
12وثمة مجموعة من الوقائع والطرائف المستقاة من الذاكرة الشفوية لرواة شعر أسرة بن ئغيل، تشهد على المواجهات الشعرية التي حصلت بين حمّاد وابنه جامع، خلال جولاتهما في المداشر والدواوير بالجنوب، وكلها مساجلات تشحذ همة الشاعر الابن، وتعمّق من ثقافته الشعرية، وتبني شخصيته الإبداعية والفنية. ويمكن الاستدلال في هذا السياق بمحاورة شهيرة بين الشاعرين، شبّه فيها الأب ابنه بالدجاجة، وشبه فيها الابن أباه بالضبع، يعترف فيها حمّاد بفحولة ابنه الشعرية، وانزعاجه منه في المبارزة بشكل يحمل ضمنيا الإعلان عن كون ابنه صار شاعرا متمكنا لا يقوى على مواجهته خوفا من سهام نقْده الشعرية. إنها استراتيجية متميزة في جعل المرافقة والمصاحبة بين الأب وابنه فرصة لبناء دعائم شخصيته الفنية وإرسائها، وضمان انتقال القريحة الأدبية من الأصل إلى الفرع:
حماد ؤ علي ئـغيل:
أ عاجايبون أ ياد نژرا ما نّ ؤر نتام
ئـميكّ ؤفولّوس مژّييْن ؤر حلين إ يات
را نّ ؤكان فلاّس نْضرْغ نكّيس أس رّيش
جامع ؤ حماد:
ئـميكّ ؤفولّوس مژّييْن أ ئـنـران ئـفيس
أملا زا نكَي تاكَادّا نك ؤر حكمغ إ يات
حماد ؤ علي ئـغيل:
أد أك ئـفك ڕبّي أجّيض أ ئـغي تيخمشين نك
لّـي غ ؤر أكّ أ تّاجّات والّي كُن يُورون
أد سول ئـهضڕ د مدّن غ ؤسرير أر ئـساوال
جامع ؤ حماد:
ميدّن شاهد أت إ بابا ئـس ئـفّاغ أغاراس
هاتي تكَيت لواليداين ئـمّنعا واوال
أملا د ؤر غيكانّ ڕژيغ فلاّك أكوڕاي
حماد ؤ علي ئـغيل:
أ عاجايبون أ ياد لخصاڕت نورو تنت
سول ؤرتا ياكُّ أژومن ئـكّيس أغ أوال
جامع ؤ حماد:
نكّين أ ئكَان ضّيضّ نك غ أمّاس ن واوال
أ غينّا غ ؤكا راد أس تاسيت نسرس أس
حماد ؤ علي ئـغيل:
أ تانّا غ تلّيت أ ضّالم أر أون تّ نفّال
لّي غ أغ د ئـقان أد ديوْن ؤكان نتّاحال
أ ماد سول ريغ أد ديون تّمونغ غ ؤغاراس
ؤر أد سول ك ئـزّيويز أبلا وانّا توروت
ئـمّا يان كُن يكَوكَن فكان أون تّيساع
جامع ؤ حماد:
غ أسّ نّا غ راد تمّودّوت حيْلغ أضاڕ نغ
أها نّ أف ك نشّوكّا د ئـس ريغ أد كا تاحلت
حماد ؤ علي ئـغيل:
هييّا زاعما تاكَادّا نك أ مو يالاّ يان
ؤر أكُّ نسكير لحساب نس غينّا غ ئـساوال
مقار أ ؤكان تّنضامن ؤر حلين إ يات.
13ومما يستوقف الباحث في ثقافة التناقل داخل النسق الأدبي والفني الأمازيغيين، بجانب هذا النموذج من التناقل الذي يتم بطريقة وراثية héréditaire داخل الأسرة الواحدة، ظاهرة التلمذة المرتبطة بمجموعات الشعراء الجوالين أو الرّوايس. فمعظم الفنانين المبدعين في مجال الغناء والشعر الأمازيغيين بسوس خاصة، مروا من تجربة التلمذة في مسارهم الإبداعي، والتي تشكّل لحظة وسيطة بين مرحلتين في العمر الفني للمبدع:
-
مرحلة البحث الطفولي عن الذات الفنية، حيث يجد الفنان نفسه، وهو في سن مبكّرة، يبحث عن إشباع رغبة دفينة في الإبداع، متلمّسا اللحظات الأولى لموهبته الناشئة، فيبحث عن المناسبات التي تجمع الشعراء والفنانين لاستراق السمع، والرغبة في التقليد...
-
مرحلة الاحتراف، حيث تتضح معالم الأفق الإبداعي أمام المبدع، فيشرع في رسم مساره الفني وفق اختيارات واعية بشكل فردي أو في إطار جماعي.
14بين المرحلتين تبرز التلمذة بوصفها علامة بارزة ودالة، تتحدد من خلال مجموعة من العناصر: الأستاذ/ المعلم، الفضاء، النظام الرمزي المؤطر للجماعة (اللغة الخاصة والعادات والطقوس المتصلة بالعالم الفني)... إن مسارات الشعراء والفنانين تكشف عن أهمية المرافقة والرفقة في تلقي الإبداع واستلهام قواعده وأساليبه وأسسه. ففي لحظة التلمذة يجد المبدع/ التلميذ نفسه منخرطا في عملية تلقّ دائم للفن عبر مصاحبة فنان/أستاذ مشهود له بالسبق في الميدان، في إطار ثنائي أو جماعي، يضطر معه التلميذ إلى مغادرة قريته والانقطاع لطلب الفن، يرافق أستاذه في جولاته ورحلاته عبر القرى والمداشر والمدن. من هنا يبدأ اكتشاف عالم الفن وما يتعلق به من ممارسات وقيم وأخلاق وعلاقات... فتكون المصاحبة اليومية سبيلا لمعرفة الذات، واختبار قدرتها على المضي في درب الفن بعد تلقيها مختلف الرموز والقيم المميزة لوسطه الفني والإبداعي. وهنا يجد المتعلّم نفسه منخرطا في إطار جماعي يكفل له شروط التعلم ومقوماته، ويؤهله لكسب الصنعة وما تستلزمه من شروط بشكل أفضل:
- 13 El Khatir Aboulkacem, « Des chanteuses et des danseuses amazighes : Vecteurs de culture en milieu u (...)
« …l’apprentissage, au sein de la troupe, se construit de manière plus au moins formelle et comporte un certain nombre de rites et de paliers définis, par lesquels le maître transmet au disciple les règles de l’art et les éléments de base du métier. »13
- 14 توفي حوالي 1944م. واسمه بلعيد محمد البعقيلي من قرية "أنو ن عدّو" قرب مدينة تيزنيت، لكنه اشتهر بالحا (...)
- 15 عبد الرحمان لخصاصي، مادة بلعيد (الحاج)، ضمن معلمة المغرب، نشر مطابع سلا، الجزء 4، س 1991، ص 1336.
- 16 من قبيلة سموكَن بتامانارت إقليم طاطا. تلميذ الحاج بلعيد وعلم أعلام جيل المؤسسين لفن رّوايس. توفي أو (...)
15من هذا المنطلق يدين الشعراء والفنانون لشيوخهم/أساتذتهم في تعلم الحرفة وتلقيها، ويذكرونهم أحيانا بأسمائهم في أشعارهم أو في بداية تقديم لقاءاتهم الفنية مع الجمهور، كما نجد عند تلامذة الحاج بلعيد14 الذي شكّل المدرسة الأولى لتنقيل فن "تيرّويسا". فقد كان الحاج بلعيد "مُعلّما مشهورا وسط الروايس في عهده. بل إن الكثير منهم تتلمذوا على يديه، حيث يكون تقديم أغانيهم عادة على الشكل التالي: الرايس فلان أمحضار ن- لحاج بلعيد (أي تلميذه) ... وقد أشرف منذ الحرب العالمية الأولى على تكوين عدد من الروايس وعدة أجواق موسيقية. ويستفاد من رسالة مؤرخة بسنة 1338/1919 أنه كان يتم اللجوء إليه كفنان للحصول على بعض المغنيين الأمازيغيين الراغبين في الغناء والرقص في المقاهي"15. ونجد أنّ كثيرا ممن تتلمذوا عليه ذكروه وأشادوا به تخصيصا أو تلميحا، ومنهم تلميذه الرايس محمد بودراع16، الذي عبّر عن فضل الحاج بلعيد عليه في صورة فنية بليغة، قياسا على العلاقة التي تجمع الطالب المتعلّم بالفقيه المعلم، يستعرض عليه أشعاره ليقوّمها ويقيّمها، مشيدا بنهجه الشعري الذي يستلهم منه فنّه وإبداعه:
أ طّالب ئتّاران أها تالُّوحت ئنُو سّغر تنت
ئنّا غ كَـيس ئفرغ ؤكَـمّاي نالس أس أر د ئصلـح
أ سيدي لـحاج أك ئصلـح ربّي تاروا د ؤقبيل نك
ها داغ يان لـميتال ؤفيغ ئن كَـيس أيدا ريغ
ئكَـان يا(ن) لكتاب ؤر ئتّمحاون ؤلا تّبالان
ؤران كَـيس ئكَـمّاين س ئدامّن ئنُو د وينُّون.
- 17 من قصبة أيت حربيل بتامانارت، إقليم طاطا.
- 18 الشاعر علي ؤصديق من مواليد سنة 1953 بدوّار آيت ويديرن ئزدار، أيت علي، قبيلة ئلالن التابع لإقليم تار (...)
16ومن النماذج الأخرى التي يمكن الاستشهاد بها في هذا السياق، وهي من الشعر الحواري المرتبط بفن أحواش، الشاعر مبارك ؤشيلّوش17 الذي حرص على استحضار مُلهمه وأستاذه في الإبداع، سيدي علي ؤالصدّيق18، في إحدى المحاورات الشعرية بينهما، لما قال:
سيدي علـي ؤ صّدّيق أكُوراي نك ئسّدرس أغ
ؤسيغ نيت لهمّ أد ؤر ئتّالس ئلّـي غ تن شّيغ
فأجابه سيدي علـي ؤ صّدّيق، قائلا:
ئميكّ ن ؤكُوراي ن ؤلـمُّود ئروا باهرا ئـ يان
ئران أ ئسكَـادّا تيكَـُوريوين غ ئسضار نسنت.
17وإذا كان من عادة بعض الشعراء أن يستفتحوا إبداعاتهم بمُلهِميهم الروحيين المفترضين من أولياء صالحين/ ئكَرّامن يرقدون في أضرحتهم ومزاراتهم، فإن بعض هؤلاء المبدعين يأبى إلا أن يخرج عن هذا "المعيار" مستبدلا به ذِكر أستاذه الحقيقي الماثل في الواقع، كما في إحدى المحاورات الشعرية للشاعر محمد ؤحماو الذي أخذ الشعر وتعلّمه من أستاذه جامع بن ئغيل، يقول:
- 19 قرية قرب تافراوت، إقليم تيـزنيت. بها ضريح الفقيه سيدي مولاي الـحاج.
- 20 نوع من القصائد الطويلة تصف أحوال الـمجتمع، وهـي قريبة من ''تاماوشت'' فـي اللـحن. وتعد من الأنواع ال (...)
ئوين مدّن تيغرسـي س وايّيـرغ19 أويغ تنت نكّيـن
ئـ جامع ؤ حمّاد أد أغ ئمّال تيسُوغلايِيـن20.
- 21 للمزيد من التفصيل في ما يخص موضوع التلمذة عند رّوايس، يمكن الرجوع إلى:
El Khatir Aboulkacem، مرجع س (...)
- 22 استنتجنا هذه الشروط من حواراتنا مع بعض الممارسين لفنون تيرويسا وأحواش...
18وتجدر الإشارة إلى أن مسألة التعلّم هذه21، سواء عند الشعراء الروايس أم عند شعراء أحواش، لا تتم إلا في إطار من الأخلاقيات التي تشكّل ضمانة من ضمانات الرغبة والاستمرار في تعلّم الفن واستلهامه. إنها عملية مرهونة بجملة من الشروط والمواصفات22 يمكن اختصارها في:
-
القابلية للإبداع، وعادة ما يصطلح عليها ب"لهاوا"؛
-
الثقافة الأخلاقية (الانضباط، احترام الأعراف الاجتماعية، المواظبة...)؛
-
اللباس المنسجم مع الأزياء المعتمدة في مجال الفن الأمازيغي/ تيملسيت ن رّايس د ؤنظّام (تاجلابيت، ئدوكان، لكمّيت...)؛
-
الرفقة الدائمة للأستاذ/ شّيخ ن ؤماركَ؛
-
القابلية للاندماج في مجتمع الفن (مجموعات رّوايس أو ئنضّامن) بما في ذلك استيعاب لغته الخاصة والمغلقة.
19إن ظاهرة التلمذة والأستاذية في الفنون الأمازيغية عامة بما فيها الشعر والغناء الأمازيغيان، والتي مثّلْنا بنماذج منها، لا تنفصل عن بُعدٍ آخر في العملية يتعلق بالفضاء، فضاء التعلّم أو التلقي الذي طبع بدوره ذاكرة أجيال من الشعراء والفنانين الأمازيغ خلال القرن العشرين أساسا. في هذا الإطار، ثمة حَيّزان مكانيان أساسيان ينطويان على أبعاد بيداغوجية وسوسيولوجية، يحضران عند كل حديث عن مسارات التناقل في ذاكرة الفنون الأمازيغية. يتعلق الأمر بالبيوتات الخاصة وبفضاء الحلقة.
- 23 محمد بن لحسن المشهور بساسبو، من جيل الفنان والشاعر الحاج بلعيد. توفي سنة 1948م.
- 24 من إحدى حواراتنا مع الفنان والشاعر أحمد المناني المشهور بمولاي أحمد إحيحي، وهي حوارات قيد النشر.
- 25 جماعة ترابية تابعة لعمالة إنزكَان أيت ملول. تتوسط مدينتي إنزكَان وأكَادير.
- 26 محمد والكاش، تيرّويسا، الجزء الثاني، مطبعة سوس الطبع والنشر، س 2013، ص 132.
20شكّلت بيوت بعض الفنانين الرواد فضاء لاستقطاب المبتدئين في الفن واحتضانهم وتعليمهم الصنعة وقوانينها، فصارت بمثابة مختبرات لتهيئ الأجيال الفنية وتأهيلها، قصد بناء مساراتها انطلاقا من المدينة. في هذا الحيز الفضائي يتلقون، بجانب قواعد الفن، الأساليبَ الضرورية في التواصل مع الجمهور ومواجهة العموم في الساحات المفتوحة وعلى المنصات والمسارح. وكان من الضروري، حسب الرواية الشفوية، أن يتعلم المبتدئ مهما كانت موهبته الإبداعية، أداء الرقص "رّكْزْ" والنقر على الناقوس، حتى إذا أتقنهما أمكنه بعد ذلك الانتقال إلى تعلم الآلة أو غيرها. ففي بداية القرن العشرين كان الفنان رّايس ساسبو23 يقيم في بيته بالدار البيضاء لقاءات تعليمية ل"رّوايس" المبتدئين، يقدمون عروضا في الرقص على الزلّيج الساخن، فيَمتحن براعتهم وقدراتهم الفنية في هذا الباب. ومما جعلهم يشترطون في المبتدئ أن يتعلم "رّكز" في بداية مشواره، وخاصة حين يلتحق بالفرقة أو المجموعة الفنية، هو أن من عادات العرض الفني البداية بمقطع موسيقي صامت بمثابة مقدمة، تتخلله لحظات خاصة بالرقص "رّكز"، ينخرط فيها كل أعضاء الفرقة، فيتحتم على الجميع إتقان هذا الأمر. وتسمى هذه المقدمة ب"الطّبّيلة"، وعادة ما تكون إيذانا ببداية العرض الفني، في انتظار التحاق الجمهور واستعدادا للفرجة "لفْراجت"، خاصة في الحلقات24. وقد ورثتْ بعض المدن هذا التقليد فصار ذكرُها مرتبطا ببيوتات الفن والغناء كما هو الحال بالنسبة لمدينة الدشيرة25، التي تُعد بحق من أهم الفضاءات التي طبعت ذاكرة الفنون الأمازيغية، وخاصة فن رّوايس. كانت تستقطب الفنانين والمبدعين الأمازيغ، يستقرون بها وينشئون مشاتل لتنقيل الفن إلى الراغبين في تعلمه وإتقان صَنْعته. ولذلك كانت هذه المدينة وِجهة كثير من الفتيان والفتيات الذين رحلوا عن قُراهم وأهليهم طلبا للفن وبحثا عن شيوخه وأساتذته، فوجدوا في فضاء الدشيرة بُغيتهم، فصار لجلهم باعٌ طويل في مسار الفن الأمازيغي. فالموقع الجغرافي للمدينة، وطبيعة ساكنتها المتأصّل فيها الفنُّ والغناء، وتضحية بعض أسرها في سبيل الإبداع، كل ذلك جعل منها فضاء راسخا في تاريخ الفن الأمازيغي بسوس. وتُعتبر أسرة أيت ؤمزيل بالدشيرة من الأسر التي احتضن بيتها عددا من الفنانين، حيث كان هذا البيت "مقصدا للروايس وممارسي رقصة العوّاد. ويُحكى أن جميع الروايس يقصدون بيت الحسين أمزيل ومنهم بوبكر أزعري، أولحوس، عبد النبي أتنان، بوبكر أنشاد، ميلود أوتارّاست، عبد السلام أسكسوي..."26. وسيرا على نهج الجيل الأول من الفنانين الذين مروا واستقروا في مدينة الدشيرة، فإن رواد الأجيال اللاحقة لم يجدوا من فضاء يحتضن شجونهم غير هذه المدينة: محمد الدمسيري، سعيد أشتوك، جامع الحامدي، أحمد بيزماون، رقية تالبنسيرت (الدمسيرية)، مولاي محمد بلفقيه، أحمد أمنتاكَ، مبارك أيسار... إن زخم الأسماء الفنية التي ترسخَت في ذاكرة الدشيرة وتاريخها الفني، وما عرفَتْه من ميلاد مجموعات غنائية وفرق الرقص الجماعي، يجعل منها بحق فضاء لا محيد عنه لكل باحث في سيرورة الإبداع الأمازيغي وتناقله عبر الأجيال.
- 27 وصف إفريقيا، الجزء 1، ترجمة محمد حجي ومحمد الأخضر، منشورات الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر (...)
21لقد شكّلت الحلقة، بوصفها فضاء عموميا، في تاريخ الثقافة الشفوية بالمغرب مجالا لتلقي المحكيات والمرويات المتخيلة والغرائبية متعددة المصادر (المتخيل الجماعي المحلي، الثقافات الوافدة...)، وتقديم العروض الفنية والإبداعية (الغناء، الرقص...) التي تُمْتِع المتلقين وتُشبع فضولهم الفني والجمالي، في إطار تفاعلي قوامه الفرجة والإمتاع والإبهار. وفضاء الحلقة عند المغاربة ليس وليد اليوم، بل يعود إلى قرون مضت، كما تشير إلى ذلك المصادر المكتوبة. ففي القرن العاشر الهجري/السادس عشر الميلادي، ذكر المؤرخ ليون الأفريقي (الحسن الوزان) في معرض وصفه لمدينة فاس أن بها أناسا "ينشدون في الساحات قصائد وأغنيات وترّهات أخرى لاعبين بالدف والرباب والقيثار وغيرها من الآلات، ويبيعون للأغمار أوراقا صغيرة كُتبت عليها كلمات وعبارات ناجعة في زعمهم للشفاء من كل داء"27. وكانت الحلقة في نظر بعضهم مكانا مدنّسا خاصا بالوضيعين ومَن لا أخلاق لهم. ويعزز هذا الموقف ما قاله الشيخ عبد الله بن محمد الهبطي في القرن المذكور، مستنكرا سلوك الزّفان المعروف بغنائه ورقصه، من ذلك قوله:
فلو رأيت أو سمعت يافلان
|
ما يفعلون في حضور الزفان
|
لديه يحضرون بالجمع الكبير
|
لم يبق عنه شائب ولا صغير
|
نساؤهم يشطحن للزفان
|
سمعا وطاعة لدى الشيطان
|
والطالب الفصيح بالدلائل
|
يعطي وفاء للضلال قائل
|
والناس كلهم له يستمعون
|
بغاية الفهم عليه يقبلون
|
- 28 يراجع في شأن بعض المعطيات المتعلقة بالحلقة عند رّوايس، كتاب تيرّويسا، محمد والكاش، الجزء الأول، منش (...)
22وبالرغم مما يمكن أن يتصل بهذا الفضاء العام من تمثلات سلبية استنادا إلى بعض النصوص التاريخية والدينية التي تنظر إليه من زاوية أحادية، فإن الحلقة تبقى مكانا مُلهما لكثير من رواد الفنون، بل ومدرسة لتلقي الإبداع وتعلُّم قواعده. في هذا السياق، يحضر فضاء الحلقة في ذاكرة الفن الأمازيغي28 بكونها حيزا مكانيا وثقافيا تفتقتْ فيه مواهب الكثير من المبدعين، وصقَلَ تجربتهم، وعزّز قدراتهم ومهاراتهم التواصلية؛ ولذلك قلّ أن تجد مَن لا يدين للحلقة بالفضل من الفنانين خاصىة منهم رّوايس. من هذا المنطلق، فإنها تمثل في ذهن كل فنان تجربة تنطوي على نوادر وطرائف مرتبطة بالبدايات الأولى للفنان في مواجهته للجمهور داخل الوسط الحضري، أو ما يمكن تسميته بالخروج إلى الوجود الفني، حيث يختبر درجة ثقته في النفس، ويتدرب على تجاوز دهشته، والبرهنة على مقدرته الفنية والإبداعية.
23إذا كان المستوى الأول في تحليلنا يتعلق بمقاربة الشعر بوصفه موضوعا للتناقل عبر حرْص الشعراء والمبدعين على تناقل النوع الشعري أفقيا وعموديا حرصا على استمراريته في المجتمع والتاريخ، فإن المستوى الثاني في التحليل يرتبط بتناول الشعر، الشعر الشفوي تحديدا، بوصفه وسيطا أو حاملا جماليا لتناقل جملة من المعارف، داخل نسق مجتمعي يطبعه التواصل الشفاهي واعتماد الذاكرة في تشكيل التوجهات والرؤى والمواقف، خلافا للمجتمعات التي تعتمد الكتابة والوسائط السمعية البصرية في تناقل الخبرات والمعارف والأخبار. وعلى هذا الأساس سنركز ونقتصر في هذا الجزء من المقال على دور الشعر الأمازيغي الشفوي في تناقل نوعين من المعارف: المعرفة التاريخية والمعرفة الدينية.
- 29 في شأن مكانة الشاعر وموقعه ووظيفته في المجتمع الأمازيغي، يراجع:
Bonfour Abdellah, Introduction à la (...)
- 30 وجيه كوثراني، التاريخ الشفوي، المجلد الأول، مقاربات في المفاهيم والمنهج والخبرات، إعداد وتنسيق وجيه (...)
- 31 وجيه كوثراني، م ن. ص 20.
24تمثل الذاكرة الشفوية مصدرا أساسيا، وأحيانا وحيدا، لاستقصاء المعطيات والأخبار التاريخية في المجتمعات التقليدية. وكان الشعر يحظى بمكانة معتبرة ضمن مختلف الوسائل الشفوية التي تحقق التواصل بين الناس في المجتمع، بحيث لم تقتصر وظيفته على ما هو جمالي فني محض، وإنما تجاوزته إلى وظيفة الإخبار والإعلام. وفي هذا الإطار الوظيفي لوضع الشعر والشاعر يمكن أن نفهم دور الشعراء الجوالين الذين يتنقلون من بلدة إلى أخرى ومن قبيلة إلى قبيلة، مع ما يحيط بهذا التجوال من ممارسات وسلوكات وعادات تنمّ عن تقدير المجتمع للشاعر وتبجيل مهمته.29 وكانت التعبيرات الشفوية الأدبية والفنية وغيرها من أساطير وملاحم وحكايات وأشعار ومأثورات نثرية، موردا للمعلومات والمعطيات الخبرية التي يبحث عنها الباحث في حقول المعرفة التاريخية والاجتماعية والأنتروبولوجية... وللتذكير، فالشفوية "باعتبارها طريقة في نقل الأخبار ليست جديدة، بل هي الطريقة الأولى والعفوية في النقل، ومن خلالها بدأ التدوين التاريخي في الحضارات المكتوبة كلها"30. وقد ازدادت أهمية الشفوية والمصادر غير المكتوبة قيمة في الأبحاث المعاصرة، خاصة مع نشوء ما يسمى بتاريخ الذهنيات، أو تاريخ الذاكرة، في ظل الاهتمام بترميم ذاكرة المجتمعات والشعوب، بعيدا عما رسمته التواريخ الرسمية و"السلطانية" التي تُنعت عادة بالانتقائية واللاموضوعية، أو التي تهتم بتاريخ "المركز" وتهمل تاريخ "الهوامش". وتحت ضوء هذا التوجه "لم تعد الوثيقة المكتوبة أداة وحيدة لاستخراج المعلومات والبناء عليها، إذ اتسعت المصادر مع أعمال التاريخ الجديد، بدءا من ثلاثينيات القرن الماضي وأربعينياته، لتشمل الصورة والرسم وأيَّ تعبير فني، بل أي تعبير إنساني آخر، وفي طليعته التعبير الشفوي"31.
- 32 يراجع أحمد المنادي وإبراهيم إعزا، أيت ئغيل نموذج من بيوتات الشعر الأمازيغي، منشورات المعهدالملكي لل (...)
25ومن هذا المنطلق النظري، يمكن اعتبار التعبيرات الشعرية الشفوية، الأمازيغية في سياق مقالنا هذا، والتي تحفظها ذاكرة المجتمع المغربي وتختزنها صدور الحُفّاظ والرواة، حاملا مُهمّا للأخبار التاريخية، وناقلا للحقائق والتفاصيل التي يمكن أنْ تُكمل صورة ما تنقله المصادر المكتوبة. ويكفي أن يلقي الناظر نظرة أفقية على متون الشعر الشفوي، ليجدها تتناقل وقائع تاريخية وأخبارا عن الحروب والمعارك بين القبائل، أو بين القبائل والسلطة المركزية، أو بينها وبين الاحتلال الأجنبي... فهذا الشاعر حمّاد بن ئغيل (ق 19م)، المذكور آنفا، ترك نصوصا شعرية تؤرخ لأحداثٍ بعضها قديم، وبعضها الآخر يعود إلى أواخر القرن التاسع عشر الميلادي32 يتناقلها الرواة جيلا بعد جيل. من ذلك مثلا نصه الشعري الذي ينقل ماجريات إحدى المعارك القبَلية سنة 1878م بين أوتزروالت وأجرّار. ولو تأملنا مطلع النص لوجدنا أن الشاعر واع بأهمية ما ينقله في شعره بوصفه يقوم مقام المؤرخ، الناقل للوقائع، متحرّيا الصدق والدقة في ما ينقل، حريصا على أمانة النقل، وهذا مفاد قوله وهو يحثّ قريحته على النّظْم الشعري، محذرا إياها من الكذب في نقل الأخبار لأنه خُلق مذموم:
زايد أ ئمي نو غ ئوليون أرا زعمْ نيت
ئني لحاقّ ئمّا تيكركاس لعيوب أد كَانت
يان ئسكاركسن زون ؤكرن لحشمات ا ئكَ لحال
26ومما يؤكد الإحساس المنهجي بالوظيفة الإخبارية عن طريق النقل الشفوي للشاعر، إشارته إلى كونه أمّيا لا يقرأ ولا يكتب، ولذلك فوسيلته الوحيدة في نقل شهادته على وقائع عصره هي القول الشفوي المعتمد على ذاكرة المتلقين وحفظهم:
ؤر أ كَمّيغ ؤر أ تّاراغ لبديع أد سالاغ
ئنّا س كا ريغ أد سرس مديغ أوال ئمدي سرس.
- 33 أنظر نص القصيدة في المرجع نفسه، ص 25.
27وقد جاءت مقاطع النص الشعري بعد الاستهلال لترسم مشاهد المعركة بدءا بذكر أسبابها وحيثياتها، وأطرافها، والأسلحة المستعملة فيها، وصور المعاناة الناتجة عن حدتها... لينتقل الشاعر بعهدها إلى المراسلات الحربية بين طرفي المعركة، خاصة بعد أن انهزم الجراري وعزم على الاستسلام، ثم يختم المشهد بصورة المهانة التي آل إليها الجراري لَمّا استقدمه أعوان أكَرام فقيّده كما تقيد البقرة ورماه في السجن عقابا له33.
- 34 حول هذه المدينة من حيث تاريخا ودورها التجاري قديما، والروايات الخاصة بخرابها، يراجع:
- 35 نص القصيدة في: أيت ئغيل نموذج من بيوتات الشعر الأمازيغي، م.س، ص 32.
28ومن القصائد التي تعكس النقل التاريخي للخبر، عند الشاعر، قصيدته حول خراب مدينة تامدولت، الواقعة قرب أقّا جنوب المغرب، وهي من مدن العصر الوسيط، أسسها عبد الله بن إدريس في القرن الرابع الهجري، وكان لها دور اقتصادي وعسكري عبر التاريخ، خاصة في عهود المرابطين والموحدين والمرينيين... نُسجت حول هذه المدينة الكثيرُ من الحكايات والنصوص التي تحاول التأريخ لخرابها وتدميرها على غرار عدد من المدن في العصر الوسيط34. وقد أسهم الشاعر بدوره في نقل وقائع خراب المدينة والأسباب التي جعلت محمد ؤعلي أمنصاكَ يُقبل على تدميرها35... ولم تخرج قصته التي رواها بخصوص هذه المدينة التاريخية عما ترويه مجموعة من النصوص الحكائية والشعرية المتداولة في هذا الباب، مع ما تحمله من عناصر يمتزج فيها الواقعي بالغرائبي كما هو الحال بالنسبة لحكاياتِ مدنٍ وأمصار كثيرة.
- 36 القصيدة، في الصيغة التي نتوفر على نسخة من مخطوطها، تتكون من 96 بيتا شعريا (نظام القصيدة ذات الشطرين (...)
- 37 لم يسعفنا البحث في العثور على معطيات أو معلومات تفيد في تحديد سيرة الشاعر، باعتبار الطابع الشفوي لت (...)
29وفي سياق المعارك التاريخية بوصفها موضوعا تتناقله النصوص الشفوية، نجد قصيدة36 لسليمان بن محمد بن بلعيد37 من "ؤمنيل"بالأطلس الصغير، تنقل ما دار من معارك في المنطقة بين القبائل والفرنسيين (مقاومة الاحتلال الفرنسي) حوالي 1913 و1917م. إنها قصيدة تندرج في باب الملاحم الشعرية التي تنقل أحداث التدخل الأجنبي في سوس في السنوات الأولى للحماية الأجنبية، وما أعقب ذلك من مواجهة شرسة من قِبَل الأهالي الذين يشهد لهم الشاعر بالبسالة والشموخ، رغم ما يملكه المحتل من عتاد حربي متطور. والقصيدة مطلعها:
بسم الله ريغ أد نظمـغ إ زّمـان أد غ لّي غ
د لهـول ئگـوتن تـاكرّايت أياد غ لّي غ
ئكّا د سرغ ؤرومي ئگنوان ئكّا د سرغ أكـال
لعجـب أنزرا غ ئگنـوان نزرا تـاوديوين
ئفّـوغ ؤگلّيد أر ئسيگّيـل مـا يّيدس ئلاّن
يـان ئگـان أموسلم ئقّان تي د أ يّيدس ئلين.
30والملحمة تستغرق في ذكر الوقائع المتعلقة ب"حرْكة" السلطان والتفاف القبائل حوله، وما رافق محاولات دخول الاحتلال من مقاومات بزعامة رجالات المنطقة في مقدمتهم القائد المدني الأخصاصي وغيره. وعلى غرار سابقه، لا يفتأ الشاعر يؤكد على مصداقية ما ينقله في ملحمته الشعرية وصحّة أخباره، يتبيّن ذلك في تكراره لمعان من قبيل:
"غْفر أ ربّي ئـ نّاظيم ئغ ئسكر ذّنب سامح أسي
غايد وّاوال ئكَا صّاحت أد ت ئد بيّنغي."
"لفايدا وّاوال غيكلّي ئكَا لحال أد نّيغ."
- 38 محماد بن يحيى بن حمّو. من شعراء تازناخت التي اشتهر بالنسبة إليها: ؤتزناخت. ولد أواخر القرن التاسع ع (...)
- 39 يراجع كتاب "الشعر المغربي الأمازيغي" لعمر أمرير، مطابع دار الكتاب، الدار البيضاء، سنة 1975. أورد في (...)
31ويمكن التأكيد على أن وظيفة النقل والإخبار لم تنفصل عن الشعر الأمازيغي الشفوي في لحظة من اللحظات، بل كان الشاعر دوما حريصا على التواصل مع المتلقين بما يفيدهم ويوسع من معارفهم ومن مدركاتهم التاريخية والاجتماعية. وبذلك صار الشعر وثيقة تاريخية تمدّنا بالمعرفة الدالة على ما يجري في القبائل والمدن والأمصار. فهذا شاعر من منطقة ورزازات محمد بن يحيى ؤتزناخت38، ينقل وقائع وأحداث بمنطقة إحاحان (حاحة) أيام حركة أحمد الهيبة ضد الاستعمار الفرنسي، في قصيدة شعرية بأسلوب قصصي مشوق، جاء في مطلعها39:
"حبيبا" ن "خوبّان"
نتّات أيد أس ئنّان
"مسعود" أ ئسمكَ ئنو
أرا شرج أكيطار
ؤتات أر "بوريقّي"
"مسعود" أيد أس ئنان
أ لالّا "حبيبا" سيدي لاّن غ ئسكراف
لاّن أس سين لكَيود
د سّلسلْت غ ؤمكَرض...
32إن مسألة الاعتماد على المتون الشعرية الشفوية الأمازيغية في توثيق الذاكرة التاريخية وتسجيل أخبارها أمر في غاية الأهمية بالنظر إلى مكانة الشعر عند القوم، ولموقعه في سلّم المصادر التي تتناقل أحداث المجتمع وماجرياته. ولعل هذا ما انتبه إليه مبكّرا، المسؤول العسكري الفرنسي القبطان ليوبّولد جوستينار Léopold Justinard (1878-1959)، المشهور بلقب "القبطان الشّلح"، حين عبّر بوضوح عن أن الأمازيغ يكتبون تاريخهم بالأغنية/ الشعر، ومن ثم لا يمكن معرفة تاريخهم أو عقليتهم دون الاستعانة بهذا الشعر، يقول:
- 40 نقلا عن:
Rachid Agrour, Léopold Justinard, missionnaire de Tachelhit (1914-1954), Quarante ans d’étu (...)
« On écrirait l’histoire du Sous, comme de toute le pays berbère, uniquement par la chanson. Rien ne peut mieux que ces chansons, dites dans les fêtes ou les assemblées, peindre l’esprit du pays40 ».
33أليست التعبيرات الفنية والأدبية ناقلة للتاريخ؟ بلى.
- 41 شاعر وفنان من منطقة حاحا (حاحة)، ولد سنة 1936م.
34تميز المجال الأمازيغي، السوسي خصوصا، بإنتاج نصوص ذات وظيفة توجيهية تعليمية تثقيفية، تسعى إلى تقريب الثقافة الدينية (من فقه وعبادات) والسلوك الصوفي إلى أذهان العامة وأفهامهم؛ وكان أن ظهرت مجموعة من المنظومات الشعرية التي تفي بغرض التوعية الروحية والتوجيه العقائدي والتربية السلوكية، يحفظها الناس ويرددونها في الزوايا والمساجد والمدارس التقليدية، وفي المناسبات الدينية والمواسم وعلى الأضرحة...وبجانب هذا النوع الشعري، والذي لا يرقى إلى الشعر بالمعنى الجمالي والفني، نجد شعرا آخر مُغنّى يقرضه الشعراء الجوالون وشعراء النظم الحواري، ينهض بوظيفة تنقيل المعرفة الدينية إلى المتلقين المستمعين. نحيل هنا على أحد رموز هذا النوع الشعري، الحاج المهدي بنمبارك41 في مطوّلته التي تنيف عن مائة بيت من الشعر، والتي عنوانها "تقصيدت ن لحيجّ" (قصيدة الحج)، يسرد فيها قصة رحلته إلى الديار المقدسة لأداء مناسك الحج. وكانت مناسبة الرحلة الشعرية فرصة لتقديم طبيعة هذه الفريضة من الناحية الفقهية، والوقوف على مختلف المناسك التي يلزم الحاج أن يؤديها وهو يتنقل بين مختلف المزارات خلال رحلة الحج. ومما يؤكد البعد الوظيفي للشعر في مجال تناقل المعرفة الدينية، أنّ أجيالا من الأمازيغ بسوس يحفظون القصيدة عن ظهر قلب، ويُسمعونها لكل راغب في زيارة البقاع المقدسة. وقد سبق الحاج بلعيد غيرَه من الشعراء الأمازيغ في هذا الفن، حيث ألّف قصيدة من اثنين وثمانين بيتا شعريا عنونها ب "أمودّو س لحيجّ" (الرحلة إلى الحج)، تناول فيها بالتفصيل كل ما يتعلق بأداء مناسك الحج، وبعض الأبواب الفقهية كفرائض الوضوء وغيرها، زيادة على مشاهداته أثناء الرحلة وهو يمر عبر بلاد مصر بأهراماتها وبمدنها التاريخية؛ كل ذلك بأسلوب شعري غنائي سلس. والقصيدة المعنية هنا هي التي مطلعها:
أ رّيحلا د لخابار نّونت أد ت ئد فاسرغ
لفايدا ها نّ أمودّو غيل ؤر ﮔيس يضهر يات
أمر لحيجّ، ئغ ئدّا يان أد د يژور غ لوالدين نّس
أ نّبي نغ راسول ؤلّاه ملا ئس ؤجادغ لمال
كرا يكَان لعام نرا أد د نژور غ لقّوبت نّون
أشكو ها نّ ئغاراسن ران كيكَان د لمال
أماصري ئطّاف لبابّور نس كَان ؤر د ئميكّ
وانّا تن ئسّودان، ؤر كصوضن غ تاضّانكَيوين
لبحر ن فرعون وانّا ت ئزرين أ ئهنّان
ليحرام أسّ نّا نلكم رّابع، ئفرض فلّاغ
ئغ ئلكم جدّا أر ئتّانّاي تيصّومعييين
بادلن وامان، ئبادل ئيي طّعام، ئبادل رّيح...
- 42 ومما اشتهر به أيضا قصيدته "لحيجّ" التي نظَم فيها رحلته إلى الديار المقدسة لأداء مناسك الحج، فهي بمث (...)
- 43 في ما يخص الجانب الديني عند الشاعر نحيل هنا على مقال لمحمد خطابي، متميز في بابه: "الإدراك الديني وا (...)
- 44 المقصود هنا مختصر الشيخ سيدي خليل بن إسحاق في الفقه المالكي، وهومن أكثر المصادر الفقهية تداولا في ا (...)
35ومن الشعراء الذين وسموا تاريخ التجربة الفنية الأمازيغية في القرن العشرين بمتونهم الشعرية التي لعبتْ دور الوسيط في نقل المعرفة الدينية وحمْل قيمها إلى المتلقين، نجد الفنان رّايس محمد بن يحيى أوتزناخت42، الذي كرّس جزءا من شعره لتبسيط موضوعات الفقه ومسائله في قالب شعري موسيقي يراعي طبيعة المخاطبين وذوقهم الفني43. يقول في مطلع إحدى قصائده التي يقدّم فيها بعض الأحكام الفقهية مستندا إلى فقه الشيخ سيدي خليل44 بوصفه واحدا من المصادر الفقهية المؤسسة للتدين المغربي:
باسم الله نوسي د لقلم غ ئفاسّن
ؤلا تادّوات ئنو أد أراغ نبدو سرك
أ ربّي نكَا نّ رّجا نو أمر غ دارون
أد ئيي تعاونت غ لحاديث نبدا كَيس
ن سيدي خليل لكتاب نّس ئنّا بلا صّاحتْ
باب ن لكيبر نعل أتّ شّيطان كَر سرسن.
- 45 عمر واهروش من الشعراء رّوايس، ينحدر من دوار تيحونا ن ئمزيلن بقبيلة مزوضة. اشتهر بقصيدته التي نظَمها (...)
36وعلى هذا المنوال سار عدد مقدّر من الشعراء والفنانين الذين صنعوا سجلات الشعر الأمازيغي من قبيل الشاعر رّايس عمر واهروش (1926م - 1994م)45 في قصيدته "لقيصت ن توسلمت" وفيها يحدد المواصفات والشروط التي يستوجبها إسلام المرء، والتي بها يكتمل، كما يُفهم من مطلعها:
يات لقيصت أد نضمغ ريغ أد تنت ئنيغ
كَيس لاخبار أد ن دّين وانّا تنت ئران
هاياغ نتّكل ف ربي أد داغ ناكّا لوصيّات
ئما سنغ نيت ئس ئكَوت ما تنت ؤر ئرين
أ كّولّو بدرغ شروض ؤ موسلم ئكملن
تاموسلمت أ لاحباب ؤر ترخي يان ئران
أ كّولّو سكرن شروض نّس أر تّن كمّلن
أد ؤكان ئشهد ئزّال ئكّيس لعاشار
أ يازوم حوجّون ئكَ أموسلم ئكمّلن.
37وتُعدّ المتون الشعرية لعمر واهروش من الحوامل الناقلة للقصص والسير الدينية الممزوجة بعناصر المتخيل الشعبي، كقصيدته "لقيصّت ن تاروا ن لعاليم" وقصيدة "لقيصّت ن تاوتمت" وغيرها. وعلى النهج نفسه سار شعراء آخرون من كل الأجيال المتعاقبة في تاريخ الشعر الأمازيغي.
38وجدير بالإشارة أن انغماس مجموعة من النصوص والقصائد الشعرية في تناقل المعرفة التاريخية أو الدينية أو غيرها عند الشعراء رّوايس، لم يكن ليُفقد الشعر جماليته وفنّيته، وذلك بالنظر إلى السياق الفني والتداولي الذي تُقدّم فيه هذه النصوص، حيث تُؤدى في نسق يجمع بين مكونات غنائية عدة: النص، الأداء، الحركة والرقص، الآلات الموسيقية والإيقاعية، الجمهور... إنها عناصر ومكونات تجعل هذه النصوص مؤداة بشكل متناغم يحفظ لها جماليتها وغنائيتها المؤثرة بالرغم من تقريرية محمولاتها الدلالية. ولعل هذه الخاصية المتعلقة بطبيعة الأداء ونسقه هي التي تُخرج هذه الأشعار الحاملة للمعارف والناقلة لها، من دائرة المتون والأراجيز والمنظومات التعليمية المتداولة في الأوساط الدينية والمدارس العتيقة...
39لقد مثّل الشعر دوْما وسيلة من وسائل التناقل في المجتمع الأمازيغي، واكتسب هذه الوظيفة، إلى جانب وظيفته الجمالية، بفعل الطابع الشفاهي الذي هيمن على الثقافة وعلى أشكال المعرفة المُنتَجة، في ظل واقع اجتماعي تقليدي لم يألف الكتابة بوصفها ممارسة يومية ومُعمَّمة. وبذلك أصبح الشعر نظاما ونسقا فنيا يلعب دور الوسيط في تناقل الذاكرة، وما يتصل بها من محمولات ومعارف تاريخية واجتماعية ودينية وفنية... ولِذا حرص المجتمع على ضمان استمرارية هذا النظام الفني وصوْنه من خلال تنقيله وتوريثه للأجيال، حفاظا على تاريخه وذاكرته. إن الغنى الذي يميز تراثنا الفني والأدبي من جهة الأنواع والأشكال، ومن جهة الموضوعات والقضايا، يستدعي تعميق البحث والدراسة في ما يخص اطرادَ وظيفة التناقل وملازمتَها لعملية الإبداع، حتى تولّد نوع خاص من الشعر الأمازيغي يندرج في باب المراسلات الشعرية التي تتم بين الشعراء في أماكن وفضاءات متباعدة، عبر وسيط تكون مهمته التنقل بين القرى والمدن من أجل تبليغ شاعر ما بالرسالة الشعرية الموجهة إليه (شفاهة أو عبر آلة التسجيل)، وانتظار الردّ. ولعل هذا النوع من الشعر يحتاج إلى أن يُفرد بمقاربة خاصة لِما فيه من كشْف عن أخبار المجتمع وأحوال الناس وانطباعات الشعراء وغيرها. ولا شك في أن التطورات الحاصلة في مجال تكنولوجيا المعلومات، وتحولات المجتمع، سيكون لها الأثر البالغ، إيجابا وسلبا، في سيرورة هذا التناقل مما يستلزم مقاربات متعددة الأبعاد، كفيلة بالوقوف على تشخيص راهن هذه السيرورة وتحدياتها.