- 1 "تگلاَّيت" Tagllayt: من القَلي أو التحميص، ونقصد بها حرفة بيع الفواكه الجافة (الحمص، و"الزريعة"/حبا (...)
- 2 "من أجمل واحات باني الأوسط، تقع بشِعْبٍ ينفتح على جبل باني بوادي طاطا المنحدر من إداونظيف وتاگموت و (...)
1لا يمكن فهم "الشبكات الاقتصادية" لحرفيي "تگلاَّيت"1 (بيع الفواكه الجافة بالتقسيط) المنحدرين من منطقة طاطا2، إلا إذا قمنا بتحليل مفهومي "الرابط الاجتماعي" و"التماسك الاجتماعي" باعتبارهما مدخلاً أساسياً لدراسة هذه الحرفة، فمعظم الحرفيين ينحدرون من منطقة واحدة تربطهم أواصر القرابة، والمصاهرة، والصداقة أو الجوار... ومن الملحوظ أن هذه الشبكات الاقتصادية لا تبنى على أساس مادي اقتصادي محض، وإنما تتشكل على أساس الرابط الاجتماعي أولاً، ومفهوم الثقة ثانياً. فعلى هذا الأساس يتحقق شكل محدد من التعاون بين هؤلاء التجار، يؤدي إلى قيم شبيهة بتلك التي ينادي بها الاقتصاد الاجتماعي (بوغلام محمد، 2013 : 10)، وهذا النوع من التعاون يشجع أبناء المنطقة على الهجرة إلى المدن المغربية الكبرى، لأنهم يعلمون مسبقاً أنهم سيجدون الدعم والسند وكل ما سيساعدهم على الاندماج في الفضاء الاجتماعي الحضري الجديد، ومن ثم، سيشتغلون وسيتمكنون من تأسيس أسرة، أو إلحاق الزوجة والأطفال بهم، أو مساعدتهم أفراد عائلاتهم الممتدة (الإخوة، والأعمام، والأخوال) في "لْبْلاد"/"تمازيرت" (المنطقة الأصل التي ينحدر منها) ...، مما يؤدي إلى تحسين ظروف عيشهم بشكل عام.
- 3 عاينت توجه بعض زملائي الذين ينتمون لإقليم "طاطا"، الذين حصلوا على شهادة الإجازة بكلية الآداب والعلو (...)
2تَعرِف "تگلاَّيت"، تزايداً وإقبالاً ملحوظين خصوصاً من طرف الشباب3، كما تشهد منافسة قوية في الآونة الأخيرة من طرف "تَبْقَّالْتْ" (تجارة المواد الغذائية العامة) والمحلات التجارية الكبرى التي أصبحت تبيع هي الأخرى الفواكه الجافة المــعلبة. وأمام هذه المنافسة الشديدة، يقوم ممارسوا "تگلاَّيت" بإحداث تغيرات ملموسة على مستوى تزيين محلاتهم، حيث أصبحت هذه الأخيرة أكثر اتساعاً وأوفر إضاءةً، كما أنهم اعتمدوا طريقة شبه موحدة في الديكور، بالإضافة إلى تنويعهم للمنتجات المعروضة (المبردات، والمشروبات، وأشكال جديدة من الفواكه الجافة المستوردة من الصين وتركيا...، وكذا السجائر، ومختلف أنواع الحلوى والشوكولاطة، وتعبئة شرائح الهواتف النقالة ...)، معتمدين في البيع على أسلوب خاص في التعامل لجذب الزبائن.
3وبحكم أننا ننتمي لمنطقة الأطلس الصغير، وبالتحديد منطقة طاطا، فإننا على اتصال مباشر مع أبناء المنطقة الذين يزاولون هذه الحرفة، فمن خلال ملاحظاتنا المباشرة في هذا المجال، نجد أن أغلب حرفيي "تگلاَّيت" بمعظم مدن المغرب الكبرى ونخص بالذكر مدينة الرباط باعتبارها مجال بحثنا المباشر، ينحدرون من هذه المنطقة، وهو الشيء الذي جعلنا نختار الاشتغال على هذا الموضوع لأهميته البالغة في المجال الحرفي والاقتصادي بالمغرب. ولوضع القارئ في صلب الموضوع؛ عزمنا على طرح سؤال مركزي حاولنا الإجابة عليه من خلال التقصي الميداني الذي قمنا به وهو كالآتي :
4إلى أي حد يمكن للعلاقات الاجتماعية أن تساهم في تشكل الشبكات الاقتصادية من خلال دراسة حرفة "تگلاَّيت" التي يزاولها أبناء منطقة طاطا بمدينة الرباط؟
5ومن هذا المنطلق، تولدت لدينا أسئلة فرعية سنحاول الإجابة عنها في هذه الورقة :
-
ما هي الجذور التاريخية لحرفة "تگلاَّيت" في المدن الكبرى بالمغرب، وفي الرباط بالتحديد؟
-
لماذا اتجه أبناء منطقة طاطا إلى مزاولة هذا النشاط الحرفي؟
-
ما هي الدوافع الأساسية التي تتدخل في استمرار هذه الحرفة بالرغم من المنافسة الشديدة التي تتعرض لها؟
-
هل انتشار واستمرار حرفة "تگلاَّيت" بمدينة الرباط، تتحكم فيه الروابط والعلاقات الاجتماعية، أم أن هناك عوامل أخرى تساهم في ذلك؟
6يشكل المفهوم أساس لغة التواصل والتعامل البشري، وآلية الإنسان للتعبير عن أفكار وحالات وأوضاع محددة، فهو يكتسي أهمية قصوى في عملية البحث الاجتماعي، فمن خلاله يمكن للباحث أن يحصر المعلومات التي عليه جمعها، كما يتيح أيضاً للقارئ منذ البداية إمكانية أن يحيط ويعرف ماذا يقصد الباحث بهذا المفهوم أو ذاك. (أبراش، 1414هـ/1994م : 235).
7تعد العلاقات الاجتماعية من بين المواضيع المهمة في السوسيولوجيا، اهتم بدراستها علماء النفس والاجتماع وغيرهم، لما لها من علاقة وطيدة بظواهر اجتماعية أخرى، فما يميزها باعتبارها مفهوما حسب ماكس فيبر هو "توفر الحد الأدنى من علاقة الفعل التبادلي على الجانبين" (فيبر، 2011 : 56)، فهي إذن تتجسد في الصلات والروابط القائمة بين الأفراد أو الجماعات أو بين فرد وجماعة، فهي قد تتأسس على مبدأ التضامن أو عدمه، وقد تكون مباشرة أو غير مباشرة، عاجلة أم آجلة (بدوي، 1978 : 353)، بحيث تتجلى هذه العلاقات في مظاهر عابرة، وقتية، مثل التحية في الطريق أو الصلة بين التاجر والزبون أو المشتري، وقد تكون طويلة الأمد، مثل تلك العلاقات القائمة على أساس نظام الزواج أو الجوار والقرابة... (قسم التحرير، 2013). وعلاوة على ذلك فإن العلاقات الاجتماعية بالنسبة لنا في هذه الورقة البحثية، خصوصاً التي تربط بين حرفيي طاطا للفواكه الجافة هي كل العلاقات التي تنسج بينهم باعتبارهم تجاراً أو حرفيين -من نفس المنطقة الأصل-، سواء كانت صداقة أو قرابة أو انتماءً جغرافيا.
8ظهر مفهوم الرابط الاجتماعي في أطروحة إميل دوركهايم Émile Durkheim "في تقسيم العمل" سنة 1893؛ حيث حلل التغير الاجتماعي من خلال دراسة علاقات التضامن المتبادل بين الأفراد حسب نمط المجتمع الذي يعيشون فيه. فالمجتمعات التقليدية التي يسودها التضامن الآلي والتي تنظمها الجماعات المحلية، يتسم أفرادها بنفس الخصائص ويخضعون للضمير الجمعي (المعتقدات والمواقف الأخلاقية المشتركة). وفي المقابل تتميز المجتمعات الحديثة بتضامن عضوي، يتأسس على مبدأي تكامل وترابط الأفراد والأدوار الاجتماعية التي يقدمونها، وينتج هذا التكامل عن تقسيم العمل الاجتماعي. (دوركهايم، 1982 : 160).
9أما سيرج بوغام Serge Paugame فقد درس الرابط الاجتماعي من خلال أعمال السوسيولوجيين الأوائل، فبَيَّن من خلالها، كيف أن بعض مميزات المجتمعات التقليدية مازالت حاضرة في المجتمعات الحديثة (Paugame, 2008 : 127)، فوجود الرابط الاجتماعي مقرون بوجود عامل الثقة والتضامن بين أفراد المجتمع. (ملين، 2015 : 46).
10ويبدو من ذلك، أن الرابط الاجتماعي هو المكون الرئيسي الذي يتحكم في امتداد العلاقات الاجتماعية بين الأفراد أو بين تجار الفواكه الجافة كحالة خاصة من مجموع الفئات التجارية الأخرى.
11يحظى مفهوم الثقة بأهمية كبيرة في نظريات "التنظيمات والتسيير"، باعتبارها عنصراً أساسياً في التبادلات وفي تحديد التنظيمات بوصفها أنساقاً اجتماعية. وتساهم الثقة أيضاً في تطوير العلاقات وفي مرونتها، وتخفف من شدة الصراعات وتُسهل نقل المعارف، وبذلك تكون الثقة مفتاح نجاح العلاقات بين الأفراد داخل المجتمعات. (Delerue et Bérard, 2007 : 125-138).
12كشف بعض السوسيولوجيين أهمية الثقة في نسج الرابط الاجتماعي، لا سيما في المجتمعات "المركبة"، بينما يعرف المفهوم نفسه داخل المجتمعات التقليدية معنى أعمق، لكونه يعتمد على الماضي المشترك والمتشابه والخوف الدائم من التجديد، ذلك أنه يخلق نمطاً من الرابط الاجتماعي في علاقات الأفراد مع "الغرباء". وهذا ما وضحه جورج سيميل George Simmel؛ في دراسته "القرض" بقوله؛ إن ذاتية الثقة تتزايد بأشكال موضوعية من الضمانات، التي ستمكن من التحكم في المخاطر وعواقبها، كما ذكرت ذلك الباحثة Laurence Cornu في مقال لها عن "الثقة". (Cornu, 2003 : 21-30).
13ومن منظور آخر كما أشار إلى ذلك فرانسيس فوكوياماFrancis Fukuyama في كتابه؛ "الثقة : الفضائل الاجتماعية ودورها في خلق الرخاء الاقتصادي"؛ إن الثقة تنبثق في مجتمع يتميز سلوك أعضائه بالنزاهة والانتظام والتعاون، اعتماداً على مجموعة من المعايير المشتركة التي يؤمنون كلهم بها (فوكوياما، 2010 : 59)، فهي إذن تُعد من القيم التي تُحَدَّدُ ثقافياً بين أفراد المجتمع. (الرضواني، 2016 : 2) لوضع درجة من المصداقية والتوقعات التي سيكونونها عن بعضهم البعض.
14لقي مفهوم رأس المال الاجتماعي اهتمام الكثير من الباحثين السوسيولوجيين والأنثروبولوجيين في كتاباتهم، حول القضايا التي تخص المجتمع. حيث يَرى معظمهم أنه مفهوم فيه نوع من الغموض، وأنه شديد المرونة والاتساع والتجريد، وأنه يدور حول شيء غير ملموس وغير عياني، ولا يمكن فهمه إلا في ضوء السياق الاجتماعي. (إسعاف، 2015 : 141). لذلك، نجد من بين أبرز السوسيولوجيين الذين اهتموا بهذا المفهوم؛ الفرنسي بيير بورديو Pierre Bourdieu، الذي قام بضبطه من خلال إسهاماته النظرية التي مكنته من وضعه في المعجم السوسيولوجي المعاصر، ويعني به "مجموع الموارد الفعلية والمحتملة المرتبطة بامتلاك شبكة دائمة من علاقات المعرفة المتبادلة والاعتراف المتبادل الممأسسة". (Bourdieu, 1980 : 2).
15أضف إلى ذلك، موقف إسعاف حمد في هذا الإطار، حيث يشير إلى أن رأس المال الاجتماعي هو "مجموعة من القيم التي تتولد لدى الأفراد كنتيجة مباشرة أو غير مباشرة لعضويتهم في روابـط اجتماعية، ومؤسـسات حكومية أو غير حكومية، تقليدية أو حديثة، على نحو يساعدهم على تحقيق أهـدافهم المشتركة، ومواجهة التحديات المشتركة بطريقة سلمية وفي سياق من التفاعل البنّاء". (إسعاف، 2015 : 145). ويتحدد هذا النوع من الرأس مال في القدرة المنبثقة عن الثقة في المجتمع أو في بعض أجزائه بواسطة آليات ثقافية متعددة مثل (الدين، والتقاليد والأعراف...). (فوكوياما، 2010 : مرجع سابق). وبناءً على ذلك، فإن مفهوم رأس المال الاجتماعي عندنا، هو كل الإمكانيات الاجتماعية والاقتصادية ثم الثقافية التي يلجأ إليها الأفراد في علاقاتهم مع بعض، للتواصل والتفاعل المتبادل داخل نسق اجتماعي معين.
16فيما يخص تعريف الشبكات الاقتصادية فإننا وجدنا غياب دراسات وبحوث ميدانية في الموضوع، إضافة إلى التقسيم المعرفي للمفهوم، بحيث هناك تعريف للشبكة وتعريف للاقتصاد كل على حدة، الشيء الذي جعلنا نقدم تعريفاً إجرائياً للمفهوم من خلال البحث الميداني الذي قمنا به.
17خلال القرن العشرين، تم توظيف "الشبكة" باعتبارها مفهوماً جديداً في العلوم الإنسانية والاجتماعية بطرق مختلفة، وقد عرف تطوراً بشكل واضح لا سيما بعد ظهور الهاتف والحاسوب وغيرها من وسائل التكنولوجيا الحديثة، التي تسهم في ربط علاقات اجتماعية بين الأفراد واتساع دائرة التواصل والاتصال بينهم ليصبح العالم بذلك قرية صغيرة أو ما يصطلح عليه بـ : "العالم الصغير". (بن سعيد، 2010 : 184).
18ونقصد بالشبكات الاقتصادية تلك العلاقات الاقتصادية : (بيع، وشراء، وتبادل السلع أو الأموال...)، التي ينسجها تجار الفواكه الجافة فيما بينهم، حيث يتمكنون بواسطتها من ضمان الاستمرار والثبات لهذه الحرفة أو التجارة.
19الهجرة لغةً، هي خروج البدوي من باديته إلى المدن (الدجاني، 1993 : 27-28)، أو انتقال الأفراد من بلد إلى آخر. وتعني في اللغة اللاتينية (Migration) انتقال ساكنة من بلد إلى آخر من أجل الاستقرار به. (شادلي، 1431هـ/2010م : 16).
20إن مفهوم الهجرة، من بين المفاهيم التي أسالت مداد الكثير من الباحثين. فلا يمكن في الفترة المعاصرة أن نتصور وجود مجتمعات بشرية، لا تعيش هذه الظاهرة، فهي إذن كونية بتعدد أصنافها، وقد تكون هجرة جهوية، أو وطنية ثم عالمية، كما يمكن لحركة الهجرة أن تكون موسمية أو مُناسباتية أو دائمة. وتخص هذه الظاهرة بالمغرب بشكل أساسي المناطق القروية، بحيث تعتبر مناطق الريف والأطلس أكثر الجهات تصديراً للمهاجرين في اتجاه مناطق أخرى داخل المغرب، أو خارجه (Kerzazi, 2003 : 17)، تحت تأثير عوامل متداخلة (اقتصادية وثقافية، واجتماعية...). (بوزيان، 1988 : 80). وفي حالة تجار الفواكه الجافة المنحدرين من منطقة طاطا، نجدهم معنيين بهذه الظاهرة كغيرهم من فئات التجار الأخرى، ولعل الصنف الأكثر حضوراً عندهم، هي الهجرة الموسمية، فأغلبية هؤلاء التجار، يهاجرون نحو المدن الشمالية بالمغرب لمزاولة العمل (التجارة)، إلى أن تصل مناسبة عيد الأضحى ويلتحقون بأسرهم هناك بطاطا، ليصلوا أرحامهم وكذلك يستريحون بعد العناء والتعب الذي لحقهم طيلة السنة ثم يعودون بعد شهر لاستئناف العمل.
- 4 إضافة إلى مقال رشيد البلغيتي المشار إليه لاحقاً، فإن العينة أو المشاركين في البحث؛ هم مصدرنا الوحيد (...)
21قد تبين لنا من خلال المقابلات أنه من الصعب الحصول على جواب دقيق حول أصل حرفة "تگلاَّيت" مع تضارب آراء المبحوثين، إضافة إلى قلة الكتابات والدراسات العلمية في الموضوع.4
22غالباً ما يتم الخلط أثناء الحديث عن تجارة الفواكه الجافة بين أمرين اثنين : أولهما أن هناك محلات تجارية (البقال/أسواق كبرى، العطار)، التي تُختص في بيع جميع الحبوب الجافة والمواد الشبيهة (التمر، والتين، والمشمش...)، ثم محلات "تگلاَّيت" المختصة في بيع الفواكه الجافة (الحمص، والزريعة، والكاوكاو...) بعد قليها وتمليحها، ليتم عرضها للزبائن باعتبارها المواد الأساسية في هذه الحرفة. لذا فحديثنا هنا سيقتصر بالأساس على هذا الصنف الأخير، وسنحاول من خلال معطيات الميدان وعبر الشهادات التي أمدتنا بها العينة التي قمنا بدراستها بمدينة الرباط أساساً، أن نسلط الضوء على المراحل التاريخية التي مرت منها حرفة "تگلاَّيت" منذ بداياتها الأولى ثم ذكر بعض العوامل التي أدت إلى احترافها من لدن أبناء منطقة طاطا.
- 5 صحفي مغربي، ينحدر من منطقة طاطا تحديداً.
- 6 يكاد يكون المقال الوحيد الذي تناول موضوع حرفيي "تگلاَّيت" بشكل مباشر.
- 7 قيدوم الحرفة منذ 1957 (مخضرم)، يبلغ من العمر 81 سنة، مالك لمقر عمله بباب الرحبة القديمة بالرباط، أص (...)
23حاول رشيد البلغيتي5 في مقال صحفي له6، أن يكشف الستار عن سؤال الأصل الذي يسكن الجميع، ما جعله يفتح النقاش في الموضوع على هامش مناسبة عَزاء رجل من رواد الحرفة كان يدعى (الحاج أوتازولت) بالدار البيضاء، والذي تجاوب معه الحاضرون باعتبارهم مزاولي هذه الحرفة، فَبَيَّنَ أن المسألة في غاية الأهمية. (البلغيتي، 2016). وللتأكد من ذلك؛ أفادتنا المقابلات -التي أجريناها مع العينة المدروسة في هذا البحث الذي نحن بصدده- أن لهذه الحرفة تاريخ عريق وأنها فعلاً جديرة باهتمام الباحثين، فخلال عشرينيات القرن الماضي كما جاء على لسان الحرفيّ (بّا موسى)7 : كانت بوادر ظهور حرفة "تگلاَّيت" الفعلية في الوقت الذي بدأ فيه الحرفيون أول ما بدأوا بقلي حبوب الحمص في المقلاة بواسطة الحطب بأقدم المدن المغربية العريقة من قبيل (مكناس، ومراكش، ووجدة، والرباط)، ففي تلك المرحلة وبالتحديد قبل فترة العشرينيات من القرن العشرين، يضيف (با موسى) : كانت عملية طهي الحمص، تكون عن طريق الماء، وذلك ما يسمى بالدارجة المغربية بــ "طايب ؤُهاري". أما عن قَليه فهذه شهادة (با موسى) التي تفيد أن الفراعنة بمصر هم السباقون لذلك، حيث يقول بالحرف وبلهجته الأمازيغية : "مَاسْتِين إِكَان أَرِتْكَلِي غْلَول نَزَمَانْ الفَرَاعِنَة، نَتْنِينْ أَدِسْگُرَان الحمص أَيْگَلِي غْمِيصر، أَرت تَاوين مدن سَلْحَرب أَرتْشتَان". كلام يستلهمه (با موسى) من الروايات التي ترسخت في ذاكرته عن الحرفة، ومعنى ذلك هو أن الذين ابتكروا قلي الحمص منذ زمن بعيد هم الفراعنة في مصر، حيث كانوا يعتمدون عليه بوصفه زاداً في الحروب، لأكله كمادة أساسية تُشبع. ليصل إلى المغرب خلال سنة 1920 بمدينتي (مراكش ومكناس) كبداية أولى، وهو ما أكدته لنا أغلب الشهادات الأخرى في ميدان البحث. لكن هنا لازالت أسئلة أخرى عالقة في الذهن، حول الجذور التاريخية لحرفة "تگلاَّيت" وهي؛ من مارس لأول مرة هذه الحرفة بالمغرب وبالرباط خصوصاً؟ وعلى يد من تعلمها أهالي طاطا ولماذا؟
- 8 البالغ من العمر 48 سنة، القادم من منطقة أَگَرد بتمنارت، إقليم طاطا، صاحب محل "تگلايت" بـ: "العكاري- (...)
- 9 53 سنة ينحدر من دوار توريرت-أقا/ إقليم طاطا، حرفي وصاحب محل "تگلايت" بسلا، مقابلة شخصية، 13/05/2017
24وفق السؤالين السابقين، يقول (السيد إبراهيم)8 : بأنه يتذكر أخاه الأكبر الذي أنشأ محلاً لأول مرة في الرباط، حيث كان يشتغل عند رجل يهودي وتعلم على يده الحرفة لأول مرة. وفي نفس السياق، فإن (السيد عبد الرحمان)9، أكد لنا الجواب بقوله : "في أواخر السبعينيات ذهبت إلى مدينة مكناس ووجدت حرفيي "تگلاَّيت" قلائل جداً آنذاك، كما أنني وجدت رَجلاً هناك يدعى (بَايَا)، من أصول دوار إِگضي بطاطا، كان هو الطاطاوي الذي أعتبره الأول في الحرفة، لتقدم سِنه، ما زاده شهرة وسط الحرفيين أثناء بيعه الحمص. فــَ (بَايَا) أخذ هذه الحرفة عن رجل لم أتذكر اسمه، وهذا الرجل تعلمها هو الآخر على يد النصارى أو اليهود، وهم الذين كانوا يبيعون 'زريعة الگَرْعَة' و'الزريعة المشْرْطَة' بعد قليها".
- 10 Diaspora La، "تشتيت مجموعة إثنية من الناس عن وطنها الأصلي وانتشارهم في بقاع أجنبية. ويجري ذلك بصورة (...)
- 11 مقابلة شخصية، الرباط، 10/06/2017.
25تُبين لنا الشهادتان أعلاه إذا استثنينا قول (با موسى) عن الفراعنة، أن حرفة "تگلاَّيت" كانت لها أصول عريقة تعود إلى اليهود بالدرجة الأولى، وما يعزز ذلك في هذا السياق هو "الشتات10 اليهودي" عبر مختلف بلدان العالم، ما جعلهم ينتشرون ويهاجرون إلى معظم المناطق بالعالم خصوصاً منها المناطق النائية الصحراوية التي تدخل ضمنها سلسلة جبال باني بالجنوب الشرقي المغربي (بوم، 2017 : 39). فاليهود إذن؛ مجموعة إثنية تجارية بامتياز، وعلى هذا الأساس أخذ أبناء طاطا هذه الحرفة عنهم وتأثروا بها، فساهموا بدورهم في امتدادها بمختلف المدن المغربية الكبرى : "أگادير، ومكناس، وفاس، ومراكش، والدار البيضاء... وخاصة الرباط"؛ بحيث ارتبطوا بها ارتباطاً وثيقاً لما لها من دور أساسي في تغيير الظروف الاقتصادية والاجتماعية، وسد رمق الاحتياجات اليومية لأسرهم التي تنتظر عودتهم كل مرة في السنة (عيد الأضحى). الشيء الذي أكده لنا (با موسى) بقوله : "الحمص بكري إِيَتاوشَا، إِيتَاوطْلاَبْ" (الحمص آن ذاك كان مطلوباً من طرف الزبائن)، وكان يُقلى منه ما يقارب طناً واحداً في مدينة الرباط ليتم توزيعه على المحلات لبيعه بالتقسيط في بعض المدن الكبرى الأخرى (الدار البيضاء، والقنيطرة)11. وفي بداية السبعينيات، وإن تراجعت فيها مكانة الحمص عند الزبائن، حلت "الزريعة" (حبات دوار الشمس) بأنواعها المختلفة (زريعة البباغيو/ المشْرْطَة، والزريعة القَاصْحَة أو زريعة الحلوف) مكانه إلى يومنا هذا.
الصورة (1) : باب الرحبة بالرباط، أنواع الحبوب (الزريعة، والحمص، والكاوكاو) التي يبيعها حرفيّ "تگلايت" التقليدي.
الصورة بعدسة الباحث، 10/06/2017.
الصورة (2) باب الرحبة بالرباط : فُرن تقليدي مبني بواسطة الطين، وُضعت مقلاة فوقه.
الصورة بعدسة الباحث، 10/06/2017.
- 12 مقابلة شخصية، سلا، 13/05/2017.
26"تگلاَّيت"؛ غالباً ما يتم نطق واستعمال هذا المصطلح بدون استشعار معناه وبُعده الرمزي والثقافي، إلى درجة أن الكثير من الحرفيين وبالضبط الشباب حديثي العهد بالحرفة فقدوا هذا المعنى، وهذا ما لاحظناه بعد خروجنا إلى الميدان، لـمَّـــا طرحنا سؤالاً مباشراً، ما هي تگلاَّيت؟ ولكي نكون ملتزمين بشيء من الموضوعية، فإننا ركزنا خلال المقابلات على هذا السؤال لأهميته، وارتأينا إضافة إلى ما لاحظناه أن نحصل على المعنى الذي يعطيه الحرفيين الطاطويين لحرفتهم "تگلاَّيت". ولكن، وبما أن المعنى فُقد عند الكثيرين منهم، فإننا لم نحصل على تحديد دقيق أو لنقل مقنع إلا عند (السيد عبد الرحمان) الذي أفادنا بأن "تگلاَّيت" هي : كل ما يطهى فوق النار بطريقة يقصى منها الماء، فهو يسمى "تگلاَّيت"، كقلي الحوت في المقلاة بواسطة الزيت..12 فــ"تگلاَّيت" إذن، هي عملية قلي الفواكه الجافة (الحمص، والزريعة، والفول السوداني/ الكاوكاو ...)، بواسطة مقلاة وسطها كمية الفاكهة التي يود الگلاَّي قَليها، مختلطة بقدر آخر من رمال البحر (حتى لا تحترق الحبوب).
- 13 مقابلة شخصية، سلا، 13/05/2017.
27وكما سبق الذكر في محور الجذور التاريخية، فإن "تگلاَّيت" أو الزريعة ليست هي الاسم الأول الذي عرفت به هذه الحرفة، بل كانت هناك نعوت أخرى لُقبت بها الحرفة منذ بوادرها الأولى، فكانت تسمى آنذاك بــ "تَحْمَامْصِيت" نسبةً إلى حبوب الحمص، "لما كان يقلى بواسطة الحطب، كان أكثر الحبوب مبيعاً بنوعيه 'المگرمل' (المـُقَرمش) والرطب فالشعب كله يأكل الحمص..."13، نفس الشيء الذي أكدته أغلب الشهادات المحصل عليها من الميدان، فذهبت إلى أن "تگلاَّيت" لما ارتبطت بالحمص كمادة رئيسية في البيع، عرفت رواجاً اقتصادياً منقطع النظير، وهنا أشادت العينة المدروسة بالدور الذي لعبته الحرفة آنذاك في حياتهم المعيشية، حيث حركت عجلة العزلة المادية لشباب طاطا، وأخرجتهم من عتبة الفقر التي كانوا يعيشون فيها. وإلى جانب اسم "تَحْمَامْصِيتْ"، كانت مرحلة أخرى سُميت فيها "تگلاَّيت" بــ "تَفْواَلتْ"، بحيث كان يَقلي الحرفيون الفول بنفس طريقة قلي الحمص ورشه بماء الملح بعد ذلك.
- 14 قد يساهم "الگلاَّي" الحرفي الجيد في تشجيع السياحة الخارجية بمدن المملكة، وفي الرابط الآتي: مقطع فيد (...)
- 15 مقابلة شخصية، سلا، 13/05/2017.
28تراجعت مكانة الحمص والفول في مرحلة لاحقة، ليحل مكانهما إلى الآن منتوج جديد أطلق عليه اسم "الزريعة" بأنواعها ("المشرطة"، و"القاصحة"، و"الكحلة"..)، التي تقلى باستعمال الفحم الحجري لمدة لم تمض كثيراً، منذ بداية السبعينيات كما أشرنا إلى ذلك سلفاً، لتحل مكانه قنينات الغاز المستعملة في حياتنا اليومية. أما عن لفظة "مول الزريعة" فهي؛ اسم يطلق على بائع الفواكه الجافة "الگلاَّي"14 أو على محل البيع، ويشير (السيد عبد الرحمان) إلى أن أساس هذا الاسم ينبني على ثلاثة مبادئ : "الحرفة، والممارسة ثم المعاملة"15. أي أن الشخص الذي تنقصه الاحترافية ولا يمارس بشكل يومي حرفته ولا يتعامل معاملة جيدة مع زبنائه، فإنه ليس أهلاً ولا يستحق ذلك اللقب.
الصورة (3) تمارة : "گلاَّي"/ "مول الزريعة" أثناء قلي "الزريعة"، حيث يحركها بلوح خشبي حتى لا تحترق.
- 16 طالبة باحثة في سلك الدكتوراه، بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية جامعة ابن طفيل/ القنيطرة. حاصلة عل (...)
الصورة بعدسة مريم الزاهي16، 17/06/2017.
- 17 (السيد عبد الرحمان)، مقابلة شخصية، سلا، 13/05/2017.
29بدأ الحرفيون "تگلاَّيت" في مراحلها الأولى بشكل بسيط جداً، حيث لا يملكون المحلات أو الدكاكين بهذا الشكل الحالي، وإنما كانوا يبيعون ثلاث مواد أساسية وهي (الزريعة، وكاوكاو ثم الحمص)، وكانت توضع في "إزْگاوَنْ"/"القفاف" (القفة)، ليباشر صاحبها العمل بوضعها أمامه وهو جالس أو يطوف بها في أزقة ومقاهي وحدائق المدينة الممتلئة..17. لكن شيئاً فشيئاً أضيفت لهذه المواد الأساسية، سلع أخرى جديدة كالحلوى (مانت، وأنيس، وفلاش، والشوكلاطة، وبيمو، وزيت الزيتون، والسكر، والأتاي، والمشروبات الغازية...)، إلى أن أصبحت"تگلاَّيت" في الوقت الحالي مثلها مثل ما يسمى بـ : تَبْقْالْتْ/محل المواد الغذائية تقريباً... أي أن حرفة "تگلاَّيت" تطورت بشكل كبير، بهذه المواد التجارية التي لم تكن ضمن اختصاصها في الأصل.
30وإذا كنا نتحدث عن حرفة "تگلاَّيت" في وقتنا المعاصر وبالشكل الذي حددناه بها في هذا البحث، فإننا نقصد محلات تجارية للفواكه الجافة بمواصفات خاصة وهي؛ أن يكون هناك محل قار مجهز بمتطلبات العصر (إنارة، وصباغة، ومكونات التَزْيين...)، زد على ذلك واجهة من الألمنيوم مقسمة بالزجاج على شكل مربعات تُوضع فيها الفواكه الجافة، بالإضافة إلى مكان مخصص للنوم، وحيز خاص يسمى عند "الگلاَّي" بــ"السَّدْةَ" لتخزين المواد الأولية/الحبوب...، وهذه التقسيمات كلها غالباً ما تتم في مساحة تقدر تقريباً بــخمسة أمتار مربعة في المـَحل ككل، باستثناء بعض الأماكن التي نجد فيها محلات "تگلاَّيت" تكبر هذه المساحة نظراً لموقعها الاستراتيجي الخاص. وما عدا ذلك، فإن محلات "تگلاَّيت" تتشابه وأصبحت تحمل شكلاً موحداً في الديكور.
- 18 - مقابلة شخصية، سلا، 13/05/2017.
31وفيما يخص الأساسيات الأخرى التي تأتي بعد الشكل الجمالي للمحل، نجد الحبوب (الحمص، والزريعة، والكاوكاو/الفول السوداني..)، باعتبارها أغلى وأثمن شيء عند "الگلاَّي"، ويعبر (السيد عبد الرحمان) عن ذلك بالقول : "إلى تْبَاعْ لِيكْ غِيرْ الحمص، والكاوكاو، الزريعة، اللوز، البِيسطاج... رَاه مزيان أما الشي لاَخر غير زْوَاقْ، بالإضافة إلى نوعين من رأس المال؛ الأول مادي (القدر المالي الذي لا يتجاوز في الغالب عشرين أو ثلاثين ألف درهم لفتح محل "تگلاَّيت") والثاني معنوي (عقل الإنسان) المدبر لشؤون الحرفة، فامتلاك رأس المال المادي بدون عقل مدبر كالسيارة بدون وقود"18، وذلك فعلاً جزء مهم أقره الكثير من حرفيي "تگلاَّيت" (من عينة البحث) بمدينة الرباط، أي أنه إذا كانت كل التجهيزات والمتطلبات الأساسية لفتح محل بيع الفواكه الجافة متوفرة عند الحرفي وكانت تنقصه فقط المعاملة الجيدة أو "المعقول"، فإنه سيعلن إفلاسه.
الصورة (4) ديور الجامع بالرباط : محل عصري لحرفة تكلايت.
الصورة بعدسة الباحث، 06/06/2017.
32تنفرد حرفة "تگلاَّيت" عن غيرها من الحرف الأخرى (تَبقالت، والعطار، والأسواق الكبرى...)، بمجموعة من الأسس والمبادئ الخاصة التي تضمن استمرارها. فإذا كان التنظيم يعني ذلك المركب الذي له مكونات فيزيقية، وبيولوجية، واجتماعية، وموضوعية في علاقة خاصة بين شخصين أو عدد من الأشخاص لتحقيق غاية أو هدفاً مشتركاً (معمري 2009 : 31-32)، فإن "تگلاَّيت" كذلك -باعتبارها تنظيماً حرفياً-؛ تجمع بين مُمتهنيها علاقات اجتماعية متنوعة يَسعون من خلالها (بشكل مباشر أو غير مباشر)، إلى تحقيق هدف مشترك وهو تطوير حرفتهم وضمان استمراريتها.
- 19 42 سنة من طاطا المركز، مدير لمحل "تگلايت"، بالقامرة-الرباط، مقابلة شخصية، 16/05/2017.
33إن الذي دفع بنا إلى دراسة هذا التنظيم أو النسق الحرفي ("تگلاَّيت")، هو ملاحظتنا لنوع العلاقات الاجتماعية المتعددة التي تربط بين الحرفيين ودورها في خلق شكل من أشكال التضامن المنفرد بينهم. ففي الوقت الذي توجهنا فيه إلى مجتمع البحث، وجدنا أن هناك فعلاً علاقات تربط بين حرفيي "تگلاَّيت" الطاطويين، ولكن رغم تعددها وتنوعها فإنه يطغى عليها رابط القرابة. إنهم أبناء عائلات وأسر متلاحمة فيما بينها (من أب، وأخ، وعم، وخال..)، فنسبة كبيرة من عينة هذا البحث، يتوسط لهم آباؤهم أو إخوانهم... لولوج حرفة "تگلاَّيت"، منهم (السيد يوسف)19 الذي قال : "والدي هو الذي سبقني لمزاولة الحرفة وهو الذي أنشأ هذا المحل سنة 1975، وبدوره تعلم في مدن مغربية عديدة كمراكش والدار البيضاء... وكان تعلمه على يد حرفي آخر من العائلة كذلك يدعى الزفريتي، ثم جاء إلى الرباط ففتح هذا المحل وأصبح يشتغل عنده أفراد من منطقة طاطا...".
- 20 مقابلة شخصية، سلا، 13/05/2017.
34تُوضح شهادة (السيد يوسف)، كيف أدت علاقته بوالده دوراً أساسياً في توجهه لمزاولة حرفة "تگلاَّيت"، بل إن والده قد استقبل شباب منطقة طاطا، ليصبح محله مدرسة تَخرج منها ربما أجيال كثيرة من "الگلاَّيا" الذين اختاروا العمل والاحتراف في حرفة أسلافهم. وإضافة إلى علاقات القرابة، فإن "گلاَّيا" طاطا تمكنوا كذلك من ربط علاقات أخرى بعيدة عن العرق والانتماء الجغرافي، فعلى سبيل المثال لا الحصر نجد (السيد عبد الرحمان)، تربطه علاقات مع أشخاص في نفس الحرفة ليس فقط في الرباط وإنما تمتد إلى خارج الوطن، ويقول في هذا الجانب : "هذه العلاقات كثيرة ومتنوعة بما فيها : الأصدقاء، والعائلة، والجيران... وفي مناطق متعددة مثل فاس، ومكناس، ومراكش، وطنجة.. إلى النمسا"20. فهذه الشهادة تعطينا بعداً آخر على مستوى طبيعة العلاقات التي تجمع حرفيي "تگلاَّيت"، باعتبارها شبكة متماسكة، يتبادلون عبرها جميع المعلومات المتعلقة بحرفتهم أولاً، ثم بشؤونهم الاجتماعية (اليومية) ثانياً.
35من الملاحظ إذن، أن معظم أجوبة المبحوثين (لم نذكرها تفادياً للتكرار) في هذه الدراسة تؤكد أن العلاقات السائدة لدى حرفيي "تگلاَّيت" المنحدرين من إقليم طاطا بالرباط، هي علاقات القرابة أكثر من العلاقات الاجتماعية الأخرى (صداقة، وجوار...)، باعتبارها السبيل الأكثر اختصاراً لأن يندمجوا في وسطهم الحضري الجديد، هذا لأن القرابة "تعتبر في غالب الأحيان، الشبكة الرئيسة بالنسبة للمهاجرين وبعيداً عنها ليس لهؤلاء سوى القليل من العلاقات الاجتماعية الفعالة، فهم قليلاً ما يشاركون في تجمعات منظمة، بل يعاشرون ويترددون أساساً على الأقرباء". (بوكطاية 2017 : 175). فحرفيو"تگلاَّيت" الطاطويون رغم أنهم هاجروا وتركوا منطقتهم الأصل، إلا أنهم استطاعوا تشكيل نسق اجتماعي خاص بهم، يمارسون فيه ثقافتهم الخاصة بلغتهم الأمازيغية الموحدة (تَشْلْحِيتْ)، كما يتبادلون الخبرات والتجارب والمعلومات المرتبطة بــ"تگلاَّيت"، مما يضمن لهم الاستمرار والبقاء.
36تكتسي حرفة "تگلاَّيت" أهمية بالغة لدى ممارسيها الطاطويين، وذلك من خلال التزايد المهم لمحلات أخرى جديدة كما لاحظنا ذلك بمدينة الرباط، لذلك أطلقنا عليها اسم التنظيم الحرفي الذي يعني؛ "ذلك الوسط الاجتماعي الذي يكتسب فيه الفرد هوية اجتماعية، من خلال ثقافة التعاون والالتحام، وعن طريق الامتثال للمعايير وقواعد وأعراف الحرفة والتضامن بين الحرفيين، والخضوع لسلطة 'المــعلم' ". (بوتاون 2014 : 178). وفي الآتي من الفقرات سنكشف عن المكون الأساسي الذي يلعب دوراً مهماً في بناء وإرساء معالم هذا التنظيم الذي نحن بصدده.
- 21 يبلغ من العمر 33 سنة، ينحدر من منطقة تمنارت- طاطا، يعمل عند (السيد إبراهيم) بالعكاري/الرباط، مقابلة (...)
37إذا كانت علاقات القرابة هي التي تشكل الشبكات الاقتصادية -كما نعني بها في هذا المقال- وتحافظ على تزايد محلات "تگلاَّيت" بمدينة الرباط، فإن الذي يساهم في ثباتها وصمودها هو عنصر الثقة؛ وذلك ما أكده لنا الميدان، حيث أجمع كل المبحوثين على ضرورة وجود عنصر الثقة داخل هذه الحرفة. فالثقة أو "المعقول" كما يترجمها "گلاَّيا" طاطا هي الصفة والخصوصية المميزة التي يجب أن تتوفر في كل قاصد محل أحد هؤلاء الحرفيين للاشتغال، فيقول (السيد سعيد)21 : "بالنسبة لي الثقة هي عندما تبحث عن الشخص الذي سيشتغل معك في المحل ويكون 'أُوتْـمَازِيرْتْ' (ينتمي إلى المنطقة الأصل)، ليس بالضرورة أن يكون من العائلة، وإنما يجب أن يكون من نفس المنطقة على الأقل لأنك تعرفه، ولا يمكن أن تقع معه في مشاكل، أما 'أَبْرَانِي' (الشخص الذي لا ينتمي إلى المنطقة الأصل)، فقادر على أن يخلق لك مشكلاً ويذهب إلى حال سبيله".
- 22 مقابلة شخصية، سلا، 13/05/2017.
38كلام مفاده؛ أن السر وراء استمرار تجارة أو حرفة الفواكه الجافة "تگلاَّيت" وتزايد محلات أخرى جديدة هو الثقة فيما بين الحرفيين، بحيث أنه لا تتبادل هذه القيمة بشكل كبير إلا بين أهل المنطقة، أما الشخص الغريب فمن الصعب أن تُوضع فيه الثقة لدواعي عدم معرفته، أو أنه لم يتم حتى ربط علاقة اجتماعية معه، لكن هذا لا يعني أنه لا تعطى له فرصة بشكل نهائي، بل يتم إخضاعه للاختبار والتجريب. على عكس الطاطوي الـمُختار، يقول (السيد عبد الرحمان) : "أنا لم أخترها بل هي التي اختارتني"22، وهي إشارة عميقة يعني بها المبحوث أنه لم يختر هذه الحرفة للاشتغال بها بمحض إرادته بقدر ما هي التي اختارته، وذلك ليس اعتباطاً أو محض الصدفة، بل لأنه لا يمكن لأي كان أن يصبح "گلاَّياً" ناجحاً، إلا وتوفرت فيه أولاً شروط الثقة والصبر ثم التمكن من الحرفة وممارستها بالإتقان.
- 23 مقابلة شخصية، 17/05/2017.
- 24 نشير هنا إلى أن تجار سوس بشكل عام، تتجسد في معظمهم (وبالخصوص أهالي طاطا) صفة الثقة باعتبارها قيمة أ (...)
39فبفضل ذلك إذن، يتمكن حرفيوا "تگلاَّيت" من بناء شبكاتهم الاقتصادية وإنشاء محلات جديدة، كما يؤكد ذلك (السيد سعيد) بقوله : "نشتغل حتى نتمكن من جمع قدر كاف من المال، ثم ننشئ محلاً خاصاً، ولو استدعى الأمر أن نقترض لدى حرفي آخر لتتمة ما ينقص من السلع والتجهيزات الضرورية"23، أي أن ذلك الشخص الذي تمكن من كسب ثقة "الـمْعَّلْمْ"24 مثلاً والخضوع لسلطته، فإنه يتمكن هو الآخر من القيام بمشروع حرفة كان فيها مجرد متعلم، ليصبح بعد الدعم الذي سيوفره له، صاحب محل "تگلاَّيت" مستقل، وهكذا تعرف هذه الحرفة تزايداً وإقبالاً من طرف حرفيين جدد من نفس المنطقة.
40وعليه فإن الثقة والعلاقات الاجتماعية كاستراتيجية البقاء والاستمرار التي ينهجها "گلاَّياً" طاطا؛ أدت ولا تزال دوراً مهماً وأساسياً في بناء الشبكات الاقتصادية لحرفيي "تگلاَّيت" بمدينة الرباط، فضلاً عن العوامل الثقافية (العادات، والتقاليد، واللغة المشتركة...) والاجتماعية التي تسهم في اندماجهم في محيطهم الاجتماعي الجديد.
41بناء على ما تقدم، حاولنا من خلال مسار ثلاثي الأبعاد (أنثروبولوجي وسوسيولوجي ثم تاريخي) أن نجيب عن السؤال الإشكالي الذي طرحناه في البداية؛ (إلى أي مدى يمكن للعلاقات الاجتماعية أن تسهم في تشكل الشبكات الاقتصادية من خلال دراسة حرفة "تگلاَّيت" التي يزاولها أبناء منطقة طاطا بمدينة الرباط؟).
42تبين إذن أن "تگلاَّيت" عبارة عن تنظيم حرفي عريق، له تاريخ اختُلف في تحديد بداياته، فإذا كانت المقولة التي تنسبه إلى حضارة الفراعنة بمصر (3000 سنة قبل الميلاد)، كمدة زمنية بعيدة عن الظرفية التي نعيشها (القرنين 20 و21)؛ غير مبرهنة منطقياً وتاريخياً؛ فإنه وكما تطرقنا إلى ذلك في تحليل معطيات المقابلة، يبقى القريب إلى المنطق وإلى التاريخ هو أن تجارة اليهود كان أثرها حاضراً في توجه واختيار أبناء منطقة طاطا للاحتراف في "تگلاَّيت" التي يمارسونها بشكل ملحوظ بمدينة الرباط، حيث قاموا بتطويرها مضيفين إليها أشياء كثيرة جديدة لتصبح على الشكل الذي نراه اليوم.
43أما على مستوى استراتيجية استمرار "تگلاَّيت" وصمودها، فإن هناك من جهة أولى علاقات اجتماعية متينة تربط بين "گلاَّيا" طاطا، بحيث تساعدهم بشكل كبير على اندماجهم في وسطهم الحضري الجديد (مدينة الرباط)، وتمكنهم في الآن نفسه من التمسك بهويتهم وثقافتهم الأصل، وهناك، من جهة ثانية، عامل الثقة المتبادلة، ودورها الأساسي في تقوية علاقاتهم الاجتماعية وبناء شبكاتهم الاقتصادية، والتي نتج عنها تزايد وانتشار محلات "تگلاَّيت" في أزقة وشوارع الرباط.