1يشكّل أدب الرحلة موردا مهما من موارد المعرفة الإنسانية، نظرا لما يشتمل عليه هذا الأدب من متون وخطابات تمدّ حقولا معرفية كثيرة بمادتها المتنوعة والغنية، من قبيل التاريخ والأدب والإثنولوجيا وغيرها. فإذا كان حقل الأدب على سبيل المثال يتناول النصوص الرحلية بوصفها مجالا للكشف عن الخطاب الجمالي والفني في الرحلة، فإن التاريخ، بما هو تدوين و"تخييل" للوقائع والأحداث والعمران، لن يعدم في هذه النصوص ما يفيد الكتابة التاريخية في سدّ ثغراتها أو ملء بياضاتها، خاصة لمـّا يتجه القصد إلى التأريخ الشامل للمجتمع في جوانبه ومستوياته المتعددة، بعيدا عن الثنائية المهيمنة فيما مضى على هذه الكتابة: الهزيمة والانتصار.
- 1 رسالة ابن فضلان في وصف بلاد الترك والخزر والروس والصقالبة سنة 309هـ/ 921م، ص 7- 8.
2ولعل التشعبات المعرفية والمنهجية التي سلكتها الاجتهادات الحديثة في حقل التاريخ، بتنويع الانشغالات لتشمل الذهنيات والاجتماعيات والدينيات، وما إلى ذلك من بنيات المجتمعات وأبعادها، يجعلنا نفترض أن الحدود بين النص الرحلي أو الكتابة الرحلية من جهة، وبين الكتابة التاريخية من جهة أخرى إنما هي ضرْب من الزيف والوهْم. وليس بِدعا أن يلجأ المؤرخ إلى سجلات الرحلة لتقصي ما يعوزه من معطيات حول دولٍ ومجتمعاتٍ ما، أو مرحلة لم تنل حظها من النقل والتدوين من قِبل المؤرخين، كما تُنبؤنا عن ذلك تجربة فريدة اعتُبرَتْ شاهدة على مركزية النص الرحلي في التدوين التاريخي، والقصد هنا إلى تجربة "رحلة ابن فضلان" ودورها في التأريخ لمرحلة في تاريخ روسيا. فالرسالة التي دونها الرحالة أحمد بن فضلان (ت. 960م) "تصف بلاد الروس والبلغار والأتراك في القرن العاشر للميلاد، وصفا لا يكاد يقع إلا في هذا المصدر، والروس أنفسهم عادوا إليه وقرؤوه ودرسوه ونشروا منه وترجموه... وجعلوه في مصادرهم الثمينة كمرجع أساسي لا غنى عنه. وهم ما يزالون منذ سنين عديدة يعودون إليه... ففيه أسماء وأعلام، وفيه ألبسة وأطعمة، وعادات وتقاليد، تتكشف رموزها وإشاراتها عن أشياء جديدة كلما أنعم المستشرقون نظرهم في قراءة النص، وفي تقليب غوامضه وحلّ مشكلاته"1.
- 2 مصطفى الغاشي، المؤرخ والرحلة أو كيف تتصدر الرحلة مدونة المؤرخ؟، أسطور، ص238.
3يهمنا من هذا التمثيل إثارة الانتباه إلى أهمية النصوص الرحلية وحاجة العلوم الاجتماعية والإنسانية الأخرى إليها، وخاصة التاريخ، حيث يلجأ إليها المؤرخ "لإيجاد أجوبة عن بعض الجوانب في ما هو اجتماعي، وثقافي، وذهني، وفكري، وديني، وصوفي، فتتحول الرحلة بذلك إلى نوع من المصادر الأولية، تجعل المؤرخ يحوّلها إلى نصوص مركزية حاسمة... إذ توفّر مادة عن أحوال السفر وظروفه والطرق ووسائل النقل، البرية منها والبحرية، والتنظيم والأمن، والقبائل والمدن، والموانئ، والعادات والتقاليد، والمساجد والأضرحة والزوايا، وتقدم معلومات ديمغرافية وطوبوغرافية مهمة"2.
- 3 يُنظر في هذا الصدد محمد المنوني، من حديث الركب المغربي.
- 4 مصطفى الغاشي م س، ص 241.
4وتجدر الإشارة في هذه التوطئة إلى أن الدوافع الكامنة وراء الرحلات مختلفة، نتج عنها تنوع وغنى في تصانيف أدب الرحلة، ما بيْن رحلات جغرافية وأخرى علمية أو حَجّية أو سفارية أو غير ذلك. ومما يميز بلاد المغرب أن الرحلات الحجية أو الحجازية نشطت فيه بشكل لافت منذ قرون، حتى إن الدولة المغربية أوْلت لها اهتماما خاصا، فقدمتْ خدمات متنوعة لما يُعرف ب"ركْب الحاج المغربي"3، الذي أسسه أبو محمد صالح الماجري
(ت. 632 هـ) أواسط العهد الموحدي، والذي تحوّل في ما بعد إلى "مؤسسة رسمية تضم العلماء ورجال الدولة والهدايا والأموال والوقف"4. وهكذا كان الاهتمام منصبا على تأسيس رباطات عديدة في مختلف المناطق، بمثابة مراكز استقبال، ينزل فيها الحجاج قبل رحلتهم وبعد عودتهم. وبذلك نشأَت أنواع كثيرة من الركب أهمها الركب الفاسي، والركب المراكشي، والركب السجلماسي، والركب البحري، والركب الشنقيطي...
5ولذلك فإن أشهر الرحلات الحجية في التاريخ الحديث يعود بعضها إلى مغاربة أمازيغ، أو على الأقل نشأوا في حضن الثقافة المغربية الأمازيغية ورضعوا من لبانها، نذكر منها: "رحلة العبدري" (1289م) لمحمد العبدري الحاحي؛ ورحلة "ماء الموائد" (1661-1663م) المشهورة برحلة العياشي، لأبي سالم العياشي، من أيت عياش إحدى القبائل الأمازيغية المتاخمة لأحواز سجلماسة؛ ورحلة اليوسي (1690-1691م) للحسن بن مسعود اليوسي الصنهاجي؛ و"الترجمانة الكبرى في أخبار المعمور برّا وبحرا" لأبي القاسم الزياني (ت. 1833م)، من قبائل زايان؛ و"الرحلة الحجازية" لأبي عبد الله محمد بن أحمد الحضيكَي (ت. 1775م) من قبيلة أمانوز السوسية؛ و"هداية الملك العلاّم إلى بيت الله الحرام..." (1684م) للهشتوكي أحمد بن محمد بن يعزى الجزولي التملّي؛ ورحلة محمد الغيغائي الوريكي التي كانت إلى الديار المقدسة مرتين، خلال سنتي 1847م و 1857م.
6وسنكتفي في هذا المقال بالوقوف عند تجربة الرحالة الغيغائي من خلال رصد خطابه الرحلي وما ينطوي عليه من معارف متنوعة وغنية، وتمثلات تعكس وجهة نظر واحدٍ من مثقفي البادية في مغرب القرن التاسع عشر.
- 5 نصّ الرحلة في أصله مخطوط محفوظ بالمكتبة الوطنية للمملكة المغربية تحت رقم 98 ج في 446 صفحة من الحجم (...)
- 6 محمد المختار السوسي، المعسول، ج 9، ص 153.
- 7 سليمان القرشي، من المغرب إلى الحجاز عبر أوروبا 1857، محمد الغيغائي الوريكي، ص 30.
7إن النص الرحلي5 موضوع المقال، نموذج من النصوص التي أنتجها مثقفو البادية المغربية، في سياق مغامراتهم الرحلية المحكومة بدوافع متباينة، خاصة في مجال الرحلة الحجازية التي يعد الغيغائي واحدا من رموزها. لا نملك معلومات كافية عن حياة الرحالة، إذ لم تسعفنا المصادر التاريخية والأدبية في معرفة تفاصيل عن سيرة محمد الغيغائي، ماعدا إشارة طفيفة عند محمد المختار السوسي في كتابه المعسول6. ولذلك يبقى نصه الرحلي المصدرَ الوحيد لبعض المؤشرات الدالة على جوانب من حياته الفكرية والاجتماعية. فالغيغائي هو "محمد بن عبد الله بن الطالب سيدي مبارك بن الحاج علي بن أحمد بن محمد الغيغائي الأصل، الوريكي الدار، العمري النسب. واعلم أن بعض النسابين رفع نسب أولاد عمرو إلى مولانا إدريس بن عبد الله الكامل، فقال: عمرو بن أحمد بن إدريس المذكور"7.
- 8 علي صدقي أزايكو، رحلة الوافد، ص 74.
- 9 البيذق، أخبار المهدي بن تومرت وبداية دولة الموحدين، ص 37، هامش 63.
- 10 من المؤسف أن القصيدتين اللتين نظمهما الرحالة باللغة الأمازيغية ضاعتا ولم يصلنا منهما شيء على غرار ك (...)
- 11 نص الرحلة، ص 35.
8فمما يُستنتج من هذا التعريف الموجز الذي قدّم به الرحّالة نفسَه، انتماؤه إلى البادية المغربية فضاء ومجالا. فهو من بلدة غيغاية، المنطوقة أمازيغيا ب ئغيغاين، تقع ما بين ئسْكْتان ن كيك (سكتانة) وئوريكن (اوريكة) بحوز مراكش، حيث "تنتظم سكناهم حول نهر ئغيغاين الذي ينبع من سفوح توبقال الشمالية"8. أما عن أصول القبيلة، فغيغاية بطن من بطون هنتانة، أكبر قبائل مصمودة في العصر الوسيط9. نحن إذن أمام رحالة أمازيغي اللسان والنشأة بحكْم الانتماء القبَلي والمجالي، وهذا تعزّزه مؤشرات في النص الرحلي من قبيل إشارته إلى نظْم قصيدتين طويلتين باللسان الأمازيغي10، وتأثره في أسلوب الكتابة بلغته الأم. يقول في هذا الشأن: "وكنت في سفري في المرة الأولى نظمت على لساني البربري قصيدتين؛ الأولى تدل على ما يقع من السرور للوفود عند رؤية المدينة المنورة ووصفها (...)؛ ثم الأخرى مثلها صنفتها حين الخروج من المدينة وتوديع الرسول صلى الله عليه وسلم، وضمنتها تنقيل النور في آباء المختار (ص) من آدم عليه السلام إلى أبويه (...)، فهي في غاية الحسن والتركيب وأنواع المحاسن والألفاظ في الملحون، وهي طويلة نحو ثلاثمائة بيت"11. إنه مؤشر قوي على أمازيغية لسان الرحالة، بل ودوره في تعزيز الإبداع الأدبي باللغة الأمازيغية في عصره. ولو قُدّر للقصيدتين مقاومة عوامل الضياع والاندثار، لكان ضمن حصيلة تراثنا الشعري اليوم نموذج متميز من التأليف الرحلي، شعر الرحلة باللغة الأمازيغية.
- 12 للتوسع في مكانة الأشراف بالمغرب يراجع: خالد بن أحمد الصقلي، جوانب من تاريخ الأشراف بالمغرب وتحقيق أ (...)
9كما يُستنتج من التعريف الموجز أن الغيغائي يسعى إلى تأصيل نسبه الشريف، وإثبات أنّه من سلالة يرتفع أصلها إلى إدريس بن عبد الله الكامل. ولعل النزوع نحو هذا النوع من التأصيل ينطوي على هاجس البحث عن شرعية دينية مستمدة من آل البيت، ومن ثم ما يترتب عنها من مكانة وامتياز في وسط اجتماعي وثقافي يوقّر الشرفاء ويُجلّهم12. إنه سند يمكّن أصحابه من سلطة متعددة الأبعاد، يظهر سحرها في طريقة تلقي الناس ما يصدر عن الشريف من قول أو سلوك أو عمل.
10أما قراءة نص الرحلة وما يحيل عليه من معطيات، فتمنحنا إمكانية استنتاج ثلاثة أبعاد مهمة ترسم صورة عن شخصية الغيغائي؛ يتعلق البعد الأول بالتكوين الموسوعي للرحالة، كما تدل عليه غنى المصادر التي يستمد منها معرفته (المصادر التاريخية والفقهية والأدبية وكتب التراجم والطبقات...)، ثم الاستطرادات والمعلومات الكثيرة والمتنوعة التي أوردها في رحلته. ومما يعزز هذا الأمر استعمال المؤلف لمؤشرات لغوية وتعبيرية تبرهن على موسوعيته، نذكر منها العبارات الآتية: "... في خبر يطول بنا جلبه"؛ "... ولولا الطول لذكرنا ما وقع في ذلك"؛ "... ولولا الإطالة لكثرت الأمثلة"؛ "... ونقتصر من كلامه، ونرجع عن سيره، إذ يحتاج إلى تأليف مستقل"؛ "وحاصل الأمر واختصاره أن"؛ "ونرجع بعون الله إلى ما نحن بصدده من الطريق". أما البعد الثاني في شخصية الرحالة فيرتبط بنزوعه الصوفي الذي يعكسه الكم الهائل من أعلام التصوف المذكورين في النص، وحرص الغيغائي على زيارة أضرحة بعضهم في منطلق الرحلة وأثنائها، والإشادة بهم والإعجاب بكراماتهم. وأما البعد الثالث فيتمثل في الحس البيداغوجي والذوق الفني عند الرّحالة، ويتجسد في مؤشرات منها:
-
اعتماد الرسومات التوضيحية في نص الرحلة، مما ينمّ عن وعي الغيغائي بأهمية الخطاب الأيقوني والوسائط الجمالية في تقريب الفكرة أو المضمون إلى المتلقي. من ذلك تعزيزه للرحلة برسومات تصور هيكليْ بابور البحر (الباخرة)، وبابور البر (القطار) في سبع قطع متتابعة؛ وشكْلَ مصورتيْن لمواد التلغراف؛ وصفة الكعبة المشرفة والمسجد النبوي والبقيع.
-
تفضيله للمطبعة المصرية في سياق مقارنتها بمطابع الهند وتركيا، بناء على معيار فني جمالي، لخصه في صحة منشوراتها وجودة مدادها، منوها بالمصححين العاملين بها.
-
- 13 اعتمدنا في الإحالات الخاصة بالاستشهادات المأخوذة من نص الغيغائي على ذِكر رقم الصفحة مباشرة بعد الاس (...)
عنايته بجمالية المظهر وتأثير ذلك في تحديد طبيعة السلوك لدى الناس وتشييد تمثلاتهم، كما يتضح في نُصحه للحاج بضرورة لبس الثياب الحسنة الفاخرة خاصة عند ركوب "البابور"، وعند الدخول إلى مدائن الروم، "وإذا رأوه نظيفا نقيا بثيابه الحسنة وهيئته الجميلة هابوه وعظموه ورفعوا قدْره وقضوا حوائجه، وأشاروا إليه بالإجلال، وإذا رأوه رث الثياب موسخا سخروا به وحقروه ونهروه" (ص 63)13.
- 14 محمد المختار السوسي، م س.
11ينتمي الغيغائي، من حيث الزمن التاريخي، إلى القرن التاسع عشر. ففي أواسطه كانت رحلتاه إلى الحج، الأولى سنة 1263هـ/ 1847م، والثانية سنة 1274هـ/ 1858م، مما يعني أن ولادته كانت على الأرجح أواخر القرن الثامن عشر، خاصة وأنه أدرك الذين حجوا أثناء حملة نابوليون على مصر (1798-1801)، كما يشير إلى ذلك في رحلته. ولم يترك الرحالة من آثار شاهدة عليه سوى هذا النص الرحلي الذي نال إعجاب معاصريه، حتى إن عبد الله الجشتيمي(1224-1310هـ) نظَم قصيدة يقرظ فيها رحلة الغيغائي، استهلها بقوله "... وبعد، فقد وقفْت على ما صاغه صوغ التبر الأحمر، ونظمه انتظام الدر والجوهر أخونا في الله ومحبنا من أجله الفقيه ذو الملكة أبو عبد الله سيدي محمد بن عبد الله الغيغائي التنصغرتي، في رحلته للمشرق ذهابا وإيابا، فوجدتها عديمة النظير، بديعة النقول والتحرير، محتوية على أغرب الغرائب لما تضمنته من تواريخ وأخبار وعجائب، وقد سلك فيها سبيل السلامة والاحتياط، خالية من التعقيد والاطناب والارتباط..."14. تعكس هذه الشهادة النقدية في حق الرحالة من أحد علماء عصره، القيمة الاعتبارية للغيغائي وسط مجايليه من مثقفي القرن التاسع عشر وعلمائه من جهة، وأهمية نصه الرحلي، خاصة على مستوى ما يحمله من خطاب يتسم بالغرابة والفرادة كما سنرى ذلك بعد حين.
12وأما من حيث الزمن الثقافي، فقد تميز عصر الرحّالة الغيغائي بسمتين تعكسان حالة التوتر التي طبعت نفسية المغاربة وهم يسعون إلى تجاوز أزمات الماضي والمضي نحو المستقبل، والقصد هنا إلى سِمَتيْ الاستنهاض والانتكاس.
- 15 حرر الظهير في 12 محرم 1261هـ/ الموافق ل 20 يناير 1845م.
- 16 محمد الأخضر، الحياة الأدبية في المغرب على عهد الدولة العلوية (1075-1311/ 1664-1894)، ص 390.
- 17 عبد الله كَنون، النبوغ المغربي في الأدب العربي، ص 278.
- 18 أبوعبد الله محمد أكنسوس، الجيش العرمرم الخماسي في دولة أولاد مولانا علي السجلماسي.
- 19 ليفي بروفنصال، مؤرخو الشرفاء، ص 145.
13فحالة الاستنهاض، الشاهد عليها الجهودُ المبذولة من قبل السلطان عبد الرحمان بن هشام من أجل النهوض بالثقافة والعلوم في المغرب، منطلِقا من إصلاح التعليم بوصفه مدخلا للنهوض المنشود، فأصدر ظهيره15 المعروف حول إصلاح نظام الدراسة والتحصيل بجامعة القرويين، مما "يدل على إدراك عميق سليم"16 تميز به السلطان في نظرته إلى أهمية العناية بالحياة الفكرية ودورها في مشروع إصلاح المجتمع. وهكذا، انبرى، بعد تسوية المشاكل الداخلية واستتباب الاستقرار، لتقويم ما لاحظه من خلل في مناهج التدريس في هذه المؤسسة العلمية التي يحج إليها طلبة العلم من كل الأنحاء. وكان للظهير السلطاني الذي نشره "تأثير ظاهر في إحياء علوم التفسير والحديث، وإذكاء الرغبة فيهما (...) وتأثرَ الفقه أيضا بروح المنشور فانتعش بعد الانتكاس، وسرتْ فيه نسمة الحياة فلم يبق قاصرا على نصوص الفقهاء المجردة، وأقوال الخلافيين غير المسندة، وذلك بفضل انتشار كتب السلف والاطلاع على آثار الأقدمين مع حسن النظر في الكتاب والسنة"17. لم يقتصر الأمر على المعارف الدينية والعلوم الشرعية وحدها، بل امتدت العناية نحو الإبداع الأدبي شعرا ونثرا، فنشطت الحركة الأدبية، وازدهرت الكتابة، خاصة على مستوى قرض الشعر ونَظْمه، كما تؤكد ذلك المصادر المتعلقة بتاريخ الدولة العلوية خلال القرن التاسع عشر، وفي مقدمتها كتاب الجيش العرمرم18 الذي يُعدّ "أول مصدر مكتوب لتاريخ ملكيْن من ملوك الدولة العلوية وهما مولاي عبد الرحمان وابنه سيدي محمد"19.
- 20 أحمد كافي، مشاريع الإصلاح السياسي بالمغرب في القرنين التاسع عشر والعشرين، ص 41.
14وأما حالة الانتكاس، فمردها إلى أمرين اثنين: أولا؛ تبعات الهزائم العسكرية وتداعياتها النفسية، خاصة بعد معركة إيسلي التي انهزمت فيها القوات المغربية أمام فرنسا سنة 1260هـ/1844م، والتي كان من أسبابها مناصرة القبائل المغربية في الحدود الشرقية للأمير عبد القادر الجزائري في مقاومته للاحتلال الفرنسي. إن تداعيات هذه الهزيمة على المستويين العسكري والاقتصادي، ثم توتُّر العلاقة بين المغرب ودول الجوار الأوروبي بسبب احتلال الجزائر، كل ذلك جعل المغرب يدخل مرحلة جديدة في تاريخه السياسي يطبعها الضعف والوهن. وهكذا خلقت هذه الشروط التاريخية والسياسية التي طبعت زمن الرحّالة، حالةً سيكولوجية لدى المغاربة بفعل إحساسهم بالهزيمة من جهة، واستشعارهم الأخطار والمصائب التي تهدد كيانهم من جهة أخرى، فنشأ بذلك توجّه نحو المهادنة والجنوح إلى السلم، عبرت عنه كتابات النخبة حينها، من علماء ومفكرين وأهل الرأي في بلاد المغرب الأقصى، "تجلى ذلك في الخوف من الغرب في ميدان النزال البري والبحري وغيرها"20. وقد تحوّلت هذه الآثار السلبية عند بعض النخب، إلى عائق نفسي يؤثر بشكل مباشر في تشييد رؤية الآخر وتمثل صورته، كما هو شأن محمد الغيغائي حين عبّر عن هذه الحالة في نصه الرحلي قائلا: "ومَن ذا يخاصم النصارى اليوم ويغالبهم، لِعلُوّ كلمتهم وقوة شوكتهم في البحار والمراسي، وفي الثغور والمراسي" (ص 74).
- 21 محمد المنوني، مظاهر يقظة المغرب الحديث، ج 1، ص 9.
- 22 محمد القبلي (إشراف)، تاريخ المغرب – تحيين وتركيب، ص 458.
15ثانيا؛ تبعات الهزيمة النفسية، بفعل تأثير التفوق الغربي حضاريا. فقد تميزت أوروبا مطلع القرن التاسع عشر بانتشار نتائج الثورة الصناعية، وتوسع شبكة السكك الحديدية، وما يتصل بها من انتعاش الأنشطة التجارية والصناعية وحركة النقل، وغير ذلك من مظاهر التقدم والعصرنة. ولا شك أن هذه التحولات التي عرفتها المدنية الغربية، وحالة التفوق التي تولدت عنها، كان لها وقع كبير في طبيعة العلاقة التي نسجتها الدول الأوروبية مع بلدان العالم الإسلامي خلال القرن التاسع عشر بالذات، حيث "أخذت المدنية الغربية تأتي ثمراتها، فاستخدمت القوة البخارية، ثم القوة الكهربائية، وتوصلت بهما إلى مخترعات كثيرة وعظيمة، قلبت الأوضاع، وقربت الأبعاد، ورفعت مقام الغرب عاليا"21. وهكذا تجاوزت أبعاد هذه النهضة وتأثيراتها حدود المجال الأوروبي لتصل إلى بلدان الجوار، "وكان المغرب، بحكم قربه الشديد من أوروبا، من بين الدول المتوسطية التي كان عليها أن تواجه تلك المؤثرات وتتفاعل معها، بما يمكن أن يضمن لها البقاء والحفاظ على هويتها الثقافية والحضارية"22.
16من الأدبيات المعهودة في التأليف الرحلي أن يستهل الرحالة حديثه بدواعي الرحلة وأسبابها، خاصة لَما يتعلق الأمر بصنف الرحلات الحجازية. ويستفاد من سياقات النص الرحلي للغيغائي أن دوافع رحلته إلى المشرق مؤطرة بالحافز الديني، متمثلا في اقتناعه بوجوب أداء فريضة الحج. وقد صادف هذا الاقتناع رغبةَ صديقه محمد بن المعطي السكراتي الوريكي مرافقته إياه بتوصية من القائد إبراهيم بن سعيد الأجراوي باشا قصبة مراكش وقتها، كما أكد ذلك بقوله: "وقدّم إلي -يقصد محمدا بن المعطي- كتابا من حضرة الباشا الأحب الأغر القائد إبراهيم بن سعيد الأجراوي بخط كاتبه الظريف... يأمره بصحبتي في الطريق، ويختارني على كل قريب وصديق، وذلك حين استأذنه في السفر وأذن له واستحسن فعله" (ص 43)؛ وبذلك انطلقت رحلته الثانية إلى الحج سنة 1274هـ/1858م، والتي تولّد عنها النص موضوع المقال بوصفه رحلة حجازية.
17لم يكتف الغيغائي بذكر أسباب الرحلة وحوافزها فقط، بل أخبرنا عن الدوافع الكامنة وراء توثيقه رحلتَه وكتابتها نصاً من خلال محاورة يقول فيها: "ولست ممن يجمع التأليف، ولا ممن يقدر على السبح في بحر التصانيف، وإنما حملني على تقييدها وجمعها وتسويدها بعض الأحبة الأجلة... منهم الفقيه العالم المشهور... أبو عبد الله السيد محمد بن إبراهيم النظيفي، وأخوه الفقيه الأستاذ الأطهر الأريب الأبرّ السيد علي بن إبراهيم... وغيرهم... إذ قال لي الأولون السيد محمد بن إبراهيم النظيفي وأخوه المذكور ومن معهما: مالكَ ما قيّدتَ كلّ ما رأيت وما إليه وصلت؟ فجعلتُ أقصّ عليهم بلساني ما رأيت في سفري وما وقع في زماني، فقالوا: هلاّ كتبتَ ذلك وجمعتَ فيه كل ما استفدتَ ممن لقيتَ، وما حصّلته وبحثت عنه وشاهدته... يكون ذلك رحلة ومؤلفا ينفعك، تذكر به المواضع المذكورة، وينفع من أراده بعدك، فقلت كما قيل: "لقد حكيت ولكن فاتك الشنب". فاتني هذا الآن، وإن رجعت بعون الله نفعل ما قلتم، غير أني لست أهلا لذلك... ولـمّا ألحّ علي الأحبة المذكورون ذلك، بقيت متشوقا لما هناك، إلى أن منّ الله عليّ بالعود والرجوع لتلك المراسم... عنّ لي أن أساعفهم وأساعدهم، لعل الله يكمل رجائي ورجاءهم. ولـمّا رأيت في كتاب علم النصرة في تحقيق إمام البصرة للإمام القاضي قال في آخره: روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من ترك ورقة من العلم ينتفع به الناس حالت بينه وبين النار. فلعلّ أن يكون في هذه المقالة بعض ذلك، إذ كثير ما في هذه الرحلة معزوّ لأصحابه، إلا ما كان من أخبار الطريق، والخبر كله أيا كان يحتمل الأمريْن. نسأل الله تعالى الإعانة والتوفيق"(ص 33-35).
18يضعنا الرحالة هنا أمام أمرٍ ذي بال، يتعلق بمسألة دوافع التأليف المعهودة في الكتابات العربية القديمة، حيث كان المؤلفون يبسطون في تصدير مصنفاتهم دواعي الكتابة والتصنيف، في سياق الأدبيات الملازمة للتدوين والتأليف. وقد صار هذا تقليدا متبعا في تآليف المغاربة خاصة في باب الرحلات الحجية، فصار الأمر عتبة نصية يستهل بها الرحالة تقييدَه رحلتَه، يبسط فيها حوافز الخوض في الكتابة عن التجربة الرحلية. وعلى سبيل المقارنة يمكن الإحالة على الرحالة العبدري الحاحي (ت 700هـ/1300م) في رحلته المشهورة، التي تعد من النصوص المؤسسة لأدب الرحلة المغربي، والتي استهلها بحيثيات التأليف مبرزا غايته ومنهجه في ذلك: "فإني قاصد بعد استخارة الله سبحانه، إلى تقييد ما أمكن تقييده، ورسْم ما تيسر رسمُه وتسويدُه، مما سما إليه الناظر الـمـُطرق في خبر الرحلة إلى بلاد المشرق، من ذِكر بعض أوصاف البلدان، وأحوال من بها من القُطان، حسبما أدركه الحس والعَيان، وقام عليه بالمشاهدة شاهد البرهان... مسطرا لما رأيته بالعيان، ومقررا له بأوضح بيان، حتى يكون السامع لذلك كالمبصر... فتُشفى به نفس المتطلع المتشوّف، ويقف منه على بُغيته السائل الـمُتعرّف .... وأضيف إلى ذلك ما يضطر إليه التبيان... حتى يكون التأليف في بابه مُغنيا، وعن الافتقار إلى غيره مُستغنيا"23. من الواضح إذن أن العبدري كان محكوما بالرغبة في إنتاج مرجع جامع مانع في بابه، يقدّم لجمهور القراء معرفة يقينية قائمة على المشاهدة والبرهان، بوصفهما مؤشرين قويين على صدق الخبر ويقينه، مما يفترض معه أن الرحالة في تقييده كان يصدر عن خطة للتأليف مرسومة مسبقا، مع ما يعنيه ذلك من تفكير قبْلي في استراتيجيات الكتابة والتلقي وفقا للسياق السوسيو-ثقافي للرحالة. وإذا كان العبدري يرمي من وراء مشروعه في الكتابة عن الرحلة إلى محاولة إشفاء غليل قرّائه، والاستجابة لانتظاراتهم بخصوص مشاهداته، مع ما يستتبعه ذاك من ضمان وضع اعتباري لعمله هذا في حقل التأليف في وصف البلدان وأحوال ساكنيها، فإن الغيغائي الوريكي خلاف ذلك، لم يكن ليكتب أو حتى ليفكّر في الكتابة، لولا أنْ طُلب منه ذلك، إذ ليس من عادته الكتابة والتأليف، وبفضل هذا الطلب (الكتابة تحت الطلب) صار في مُكنة الأجيال اللاحقة بعد جيل الرحالة الاطلاع على نص رحلي، يحمل "وجهة نظر" الغيغائي حول أحداث الرحلة ومشاهداته خلالها. هكذا، وانطلاقا من نصّه أعلاه، يكشف الغيغائي عن حافزين مهمين كانا وراء ولادة نصه الفريد في الرحلة:
- 24 هذه النخبة لها باع في المعارف الفقهية واللغوية والتاريخية وغيرها. وقد ترجم لها مؤرخو ومترجمو العصر، (...)
19الأوّل حافز غيري؛ يتمثل في الاستجابة لطلب الأحبّة (وهم نخبة من فقهاء ومتصوّفة عصره24) الذين ألحّوا عليه بالكتابة حتى يفيد الناس ويخبرهم بمشاهداته ربما يكون ذلك "دليلا" ينفعهم ويستأنسون به، خاصة لمن أراد خوض تجربة الرحلة من أجل الحج.
20الثاني حافز ذاتي؛ يكمن في طمع الغيغائي في النجاة من النار، انطلاقا من حرصه على تقاسم المعرفة مع الآخرين، والتحرز من دائرة الموصوفين بكتمان العلم، كما يستفاد من الحديث النبوي الذي أصّل به هذا الحافز.
- 25 محمد المنوني، الفقيه المنوني أبحاث مختارة، ص 270.
21إنها عملية مزاوجة، في مقاصد التأليف المباشرة، بين تحقيق مصلحة غيرية وأخرى ذاتية، لم يجرؤ معهما الغيغائي، عكس العبدري، على تبني الإطلاقية في المعرفة (نقْل الخبر)، بل بقي حريصا على مراعاة النسبية مهما كان الخبر: "والخبر كله أيا كان يحتمل الأمريْن". هكذا يتعزز تواضع المؤلف ومراعاة قدره، الذي يُستفاد من مفتتح مقاصد التأليف، باحتمالية القصور في نقل الخبر، مما يرسم جانبا آخر من شخصية الغيغائي العلمية، المتسمة بالسمتين المذكورتين المتأصّلتين في أخلاق فقهاء البادية المغربية. وموازاة مع ذلك، فإن توطئة الرحالة المحكومة بما هو بيداغوجي(مساعدة القارئ على فهم سياق التأليف)، تفتح المجال لتَمثّل طبيعة العلاقة المميزة التي تجمع الغيغائي بمثقفي عصره، بما يسمح بالقول إن الرحالة كان بالفعل نموذجا مجسدا للتواصل العلمي بين مثقفي البادية ومثقفي المدينة (نخبة مراكش)، كما تؤكد ذلك حيثيات التأليف الظاهرة، حيث كان محمد الأمين الصحراوي "ومعه نخبة من مراكش قد ألحوا على المؤلف في تدوين أخبار رحلته، فجاء هذا الاقتراح يسم الكتاب بطابع مصدر إعلامي موجه من البادية إلى المدينة المغربية، وبالخصوص في النقط الحساسة من مشاهدات الرحالة التي أثارت اهتمامه، ويتعلق الأمر بحديث الغيغائي عما عرفه أواسط القرن التاسع عشر من تفوق منجزات أوربا التقنية، ثم انعكاس ذلك على واقع المسلمين"25.
22إن الوجه الظاهر في علة التأليف لا يمكن بأي حال أن يكون مستغنيا بنفسه عن علة ضمنية، تعكسها طبيعة الخطاب المحمول في النص الرحلي وأبعاده المتنوعة، وتحملنا على الاستفهام حول ما قيّده وجمعه وسوّده الغيغائي، هل هو مجرد تأليف عن الرحلة إلى الحج، يبْسط معلومات حول الرحلة ومسارها، وما يلزم الحاج معرفته لأداء مناسكه، أم أنه كتاب في المعرفة ينتج خطابا ينمّ عن وعي تاريخي بدور المثقف ومسؤوليته في الكتابة عن عصره؟ بماذا نفسّر تقاطع خطابات معرفية كثيرة داخل النص الرحلي للغيغائي؟ أليس ذلك دليلا على أن القصد الضمني من التأليف هو الإسهام في إنتاج المعرفة الخاصة بالعصر، على غرار ما يفعله المؤرخ والفقيه والأديب وغيرهم من نخب الأمة ومثقفيها؟
23يمثل خطاب الرحلة عند الغيغائي وجها من أوجه التفاعل بين المثقف المغربي من البادية الأمازيغية وسياقه الحضاري بشكل عام، حيث تَمثّل الرحالةُ وقائعَ عصره وأعاد صياغتها على شكل معارف، تبرهن على انخراط مثقف البادية في انشغالات مجتمعه وسجالاته الفكرية والدينية، بما في ذلك قضايا العلاقة مع الآخر الأجنبي/الغربي. ولعل الفضل يعود للغيغائي في كونه "المغربي الأول فيما يعرف لحد الآن، الذي نشر بالمغرب في القرن التاسع عشر، وصْف تقنيات حديثة، الباخرة والتلغراف والقطار والمطبعة وسواها. ثم كان الرحالة في طليعة المؤلفين الذين عرّفوا بواقع المسلمين إزاء تفوق أوروبا في القرن ذاته"26؛ وفي هذا السبق دليل على الوعي المبكر بأهمية المقارنة وجدواها في رصد مظاهر النهوض والضعف الحضاريين لدى الغرب والعالم الإسلامي.
24لقد كان الغيغائي صورة لعصره على مستوى النهضة الدينية والفكرية والأدبية، إذ لم تكن إثارته مثلا لقضايا فقهية في نصه الرحلي، والتي سيأتي ذكر بعضها، سوى محاولة لتوثيق النقاش السائد في الأوساط الدينية والثقافية لعصره، ولا يمكن بأي حال أن تُفصل تلك القضايا عن السياق العام لزمن الغيغائي، من حيث انعكاس الوضع السياسي والعسكري الذي أشرنا إلى بعض ملامحه، على السجالات العلمية والأدبية والفقهية.
- 27 عبد الهادي التازي، رحلة الرحلات، الجزء الثاني، ص 509.
25إن المراد من وسْم خطاب الغيغائي بكونه منتجا للمعرفة الإشارةُ إلى طبيعة النص الرحلي، وما يحمله من معارف متعددة تمزج بين أنساق نصية متباينة من حيث الوضع الأجناسي، من قبيل الشعر والحكاية والسيرة الذاتية وغيرها من التعبيرات المدرجة تاريخيا في خانة الأدب؛ وأخرى مختلفة من حيث تصنيفاتها وموضوعاتها، من قبيل التاريخ والجغرافيا والإثنوغرافيا والفقه والحديث والأخلاق، وغيرها من النصوص التي تحيل على حقول معرفية كثيرة. وإذا كان هذا الزخم المعرفي المحمول في نص الغيغائي دليلا على البعد الموسوعي في شخصيته، لكون الرحلة "حافلة بالمعلومات التاريخية والسياسية والاجتماعية والفقهية"27، فإن اللجوء إلى الرحلة كشكل للكتابة والتأليف، أسعف المؤلف في بسط ذخيرته المعرفية التي اكتسبها من مصادر جمعتْ بين خبرته المستمدة من مساره العلمي وتجربته في الحياة، وبين مشاهداته خلال تجربته الرحلية نحو الديار المقدسة، خاصة وأن الكتابة الرحلية هي من جنس الأشكال الأدبية المنفتحة، التي تستوعب مختلف أجناس الكتابة وأنواعها وتتفاعل معها، وتعيد إنتاجها ضمن سياقات تعبيرية جديدة، تحددها طبيعة النص الرحلي ووقائعه. ولعل هذه الطبيعة هي التي تشكّل مصدر ثراء الكتابة الرحلية وغناها وتجعلها حمالة خطابات ومعارف، تصنع فرادة الرحلة بين أشكال القول الأدبي المعهودة.
26القصد في هذا القول إلى جملة المصادر والمسالك المنهجية التي توسّل إليها الغيغائي في تأليف نصه الرحلي من جهة المعارف المحمولة فيه، سميناها بآليات تشييد المعرفة، اعتبارا لما لمسناه عند الرحالة من وعي عميق بأهمية البُعد المنهجي في تحري الأخبار، وإثبات صِدقها في الكتابة الرحلية، ودوْر ذلك كله في بناء استراتيجية فعالة على مستوى التلقي، أي الارتقاء بخطاب الرحلة إلى درجة التأثير والإقناع. وقبل التطرق إلى نماذج من المعارف المنتجة في رحلة الغيغيائي، يلزمنا الإشارة إلى الآليات المنهجية التي شيّد بها، وعليها، الغيغائي محتوى رحلته، انطلاقا مما استنتجناه من طبيعة الخطاب في نصه الرحلي. ويمكن حصْر هذه الآليات في:
27أولا: المشاهدة والمعاينة؛ وهي من القواعد الأساسية في أدب الرحلة، عليها يقوم نقل الوقائع ووصف الموجودات. وقد حرص الغيغائي على أن يؤسس خطابه الوصفي على آليات المعاينة كما تدل على ذلك مؤشرات كثيرة في النص، نذكر منها العبارات الدالة الآتية: "...وهذا بالمشاهدة والاختبار، وليس بالمقاولة والتذكار" (ص 47)؛ "وهذا الوصف موجود فيهم مُشاهد لا يُنكر ولا يُجاحد" (ص 50)؛ "وهذا قد رأيته بعيني وشاهدته من الحجاج بنفسي" (ص 63)؛ "ولقد عاينت ذلك" (ص 69)؛ "وهاتان الحالتان شهدناهما معا" (ص 72)؛ "وهذا ما ظهر لي من وصْف هذا الجامع، وقد قلنا إنه فوق الوصف، وقال الناس: ليس الخبر كالعيان" (ص 112) ...
- 28 ابن خلدون، المقدمة، ص 115.
28ثانيا: المقايسة والمقارنة؛ وهي قاعدة جليلة خاصة في علم التاريخ. وليس غريبا أن يعترف ابن خلدون بضرورتها في ميدان فن التاريخ، يقول "فلذا يحتاج صاحب هذا الفن إلى العلم بقواعد السياسة وطبائع الموجودات، واختلاف الأمم والبقاع والأعصار في السير والأخلاق والعادات والنحل والمذاهب وسائر الأحوال، والإحاطة بالحاضر من ذلك، ومماثلة ما بينه وبين الغائب من الوفاق، أو بوْن ما بينهما من الخلاف"28. لقد استوعب الغيغائي أهمية المقايسة ودورها الفعال في تشييد التمثلات أو هدمها، فلجأ إليها بوصفها تصورا قائما على رصْد الاختلافات بين ثقافتين أو مجتمعين، ومن تم إعادة النظر في بعض المواقف التي تَمثّلَها البعض تجاه موطن الغيغائي وثقافته، ولذلك نجده يُعلي في سياق المقايسة من قيمة بلده في مقابل إبراز مشكلات الآخر ومواطن ضعفه. وهنا تشكّل مدينة مراكش وبلاد المغرب بؤرة الرؤية التي ينظر بها الرحالة إلى الآخر، ويجري من خلالها مقايساته ومقارناته. وهذه نماذج لأوجه المقايسة التي أقامها الغيغائي في نصه الرحلي:
الأقوات والأطعمة
|
أرخص في أحواز مراكش، وأغلى في غيرها من البقاع
|
"فليس في هذه البلاد التي ذكرنا من بغداد إلى الشام واصطنبول والروم، حتى تونس وفاس وغيرها أرخص من هذه الحضرة الحوزية المراكشية زرعا ولحما وسمنا وفاكهة وزيتا... وفي هذا الزمان اللحم بمصر بأربعة قروش... والسمن بخمسة أواقي... وكذلك بفاس يبلغ اللحم لأربعة أواقي... واللحم اليوم بمراكش بثمانية أوجه إلى ستة... فانظر هذا الرخص من الخصب الذي خص الله به هذه المدينة المباركة " (ص 48، 49)
|
البهائم وعلفها
|
أرخص في مراكش وأغلى في مصر
|
"تجد الفرس المسنّ في مصر بمائتين ريال إلى ثلاثمائة ريال، والبغلة كذلك، والحمار بستين ريالا...، وقد وقع الغلاء في البهائم بمراكش حتى بلغ الحمار الجيد الستين والسبعين إلى التسعين لا غير...، وكذلك علف الدواب بمراكش ونواحيها أكثر وأرخص مرمى به في الأرض والخلاء، ولقد تجد الزرع بمصر والصعيد تتعجب من أكداسها وتدخل البقعة التي أزيل منها الزرع، فما ترى فيها ما تحكّ به أذنك. وتدخل الدشور والمدن والفنادق... فلا ترى تبنة ولا حصيدة ولا ربيعة يابسة، وتبيت الإبل بمنزل من المنازل وتصبح ولا ترى فيه ما تنقي به أسنانك... وبلادنا المغربية لو أزيل الزرع من فدان لبقيت الحصيدة والخصب تأكل منه البهائم عاما كاملا، وهذا يدل على أن هذه البلاد أوسع وأخصب وأرخص وأجود وأسخى وأنعم من تلك البلاد" (ص 49، 50)
|
الروم والمسلمون
|
الانخداع بالمظاهر
|
"فإنهم –يقصد الروم- يسخرون بمن رأوه مسكينا غير متجمل بالثياب الرفيعة النقية، ونحن معاشر الإسلام إذا رأينا المسلم رث الثياب أو ليس له ثياب نظن به خيرا أو نقول زاهدا أو مسكينا، والكفار لعنهم الله المسكين عندهم محقور ومهجور" (ص 63)
|
السياسة والرياسة
|
تفوّقُ السلطان المغربي على السلطان العثماني في تدبير العلاقة مع الآخر
|
"ولكن هذا السلطان -أي عبد الحميد- دفع بعض ذل (المسكوف) – أي الروس– وجلب لنفسه ومملكته ذليلين من هذين الجنسين أذلهما الله، حيث استعان بهما وأطلعهما على عورته، أدام الله لنا حياة سلطاننا الإمام الهمام مولانا عبد الرحمان بن هشام، وواصل عزه وخلد ملكه، لأنه رضي الله عنه اشتغل بالمكائد العقلية والحيل الفكرية مع هؤلاء الأرجاس الكلاب الضارية الأنجاس، وحيله معهم صانه الله فائقة، وخدائعه لهم رائعة" (ص 81)
|
العلاقة مع الروم
|
عزة المغرب في مقابل ذل المشارق وغيرهم
|
"وكذلك بلدنا المغرب الجواني فإنه منور من النور النبوي ومصون بالسر الإلهي، لا بقوة ولا بعدة، بل ببركة الأولياء الموجودين به إلى غابر الدهر، وما سوى ذلك قد عمه ذل الروم سيما المشارق كلها وبلاد الترك والعجم... فمن رأى المشارقة وغيرهم وما هم فيه من الذل للنصارى يتعجب ويحمد الله تعالى ويشكره على سكناه بهذا الغرب الجواني، ويبالغ في خدمته ونصره لهذا السلطان الشريف الحسني" (ص 108)
|
المجال الديني
|
الوحدة الدينية في المغرب مقابل التفرقة المذهبية في المشرق
|
"وهذا الغرب الجواني سلطانه علوي شريف، ودين واحد منيف، ومذهبه مذهب واحد... وأما أهل المشرق فأمم كثيرة، وطوائف متفرقة، وأديان مختلفة واعتقادات فاسدة وأحكام متباينة" (ص 124، 125)
|
29ثالثا: الرواية؛ وترتكز آلية الرواية عند الغيغائي على خاصيتين: أولاهما المقابلة المباشرة، حيث يحرص الرحالة على استقصاء المعلومات والأخبار من الأشخاص مباشرة، فينقل الحوارات التي يجريها معهم في موضوعات شتى؛ وثانيتهما أن الرواية عنده لا تُبنى للمجهول إلا ما ندر، بل يُسند كل قول لقائله فيحرص على ذكره بالاسم أو الصفة أو ما يشير إلى صحة الخبر المنقول عنه. ومما استعمله الغيغائي من العبارات الدالة على الرواية بالخاصيتين المذكورتين، الملفوظات الآتية: "... فإنا سألنا المتزوجين بمصر فقالوا..." (ص 114)؛ " وقال لنا الفقيه ابن الطوير..." (ص 114)؛ "فسألنا عن هذه العادة فقالوا..." (ص 127)؛ "وقد ذكر لنا الفقيه الطوبي..." (ص 126)؛ "على ما حكاه لنا الفقيه سيدي محمد بن عبد الله المغربي بالإسكندرية" (ص 130)؛ "وذكر لنا هذا أهل الإسكندرية" (ص 131)؛ "إذ سمعناه ممن حضره مثل الشيخ الفقيه أبي عبد الله المراكشي... ومثل الشيخ محمد الإسكندري كلاهما ثقة" (ص 133).
30رابعا: التوثيق؛ فبالإضافة إلى إسناد الخبر إلى صاحبه على مستوى الرواية، نجد حرص الغيغائي الشديد في كتابته الرحلية على توثيق مجمل المعطيات والإفادات التي يوردها في نصه، سواء تعلقت بما شاهده أثناء الرحلة، أو ما حُكي له من مرافقيه أو ممن التقى بهم أو زارهم خلال سفره، أو ما استذكره واسترجعه في نطاق الاستدلال على أمور تحتاج إلى دليل، أو سياق المقايسة، أو ما أورده من استطرادات وشواهد شعرية أو نثرية أو غير ذلك، فينسب كل شيء إلى مصدره. وقد سلك الرحالة منهجا خاصا في نقل الخبر وإثباته متحريا ومرجّحا بشكل عقلاني، كما يُستنتج من قوله "وهذا الخبر نسرده ونختصره بحول الله، إذ فيه للناس أقوال، ونذكر منه إن شاء الله ما تحقق خبره وتكرر وشاع عند أهل العقل، والمعتنين بالمعرفة والأحوال والنقل، مثل أهل مكة وغيرهم من أهل البلد، إذ سألنا كل واحد حتى تحرر عندنا وتحقق لدينا منه ما يكفينا من أمر ذلك..." (ص 152)؛ ومن قوله أيضا "... على ما حكاه الناس من ذلك، وتكرر لدينا، وسمعناه من غير واحد ممن له عقل وخبرة ومعرفة... فأخذنا من الخبر ما اتفقوا فيه، وتركنا ما اختلفت به الأقوال، وكثر فيه اللغط والأحوال".
31خامسا: الاستقصاء والدقة في الوصف؛ وهي آلية تنم عن دقة الملاحظة عند الغيغائي، وقدرته الفائقة على التقاط الجزئيات والتفاصيل، وتقديمها إلى المتلقي بأسلوب يجعله يمسك بمكونات الموصوف وكأنه يراه رأي العين. تَبيّن ذلك بوضوح في الوصف الإثنوغرافي الذي خص به مختلف الشعوب والثقافات والأمصار التي مر منها أو صادفها في رحلته، وفي الوصف الذي خص به منجزات أوروبا التقنية، بشكل يدل على معرفته الذكية والعميقة بواقع أوروبا المتقدمة. في هذا الصدد انصب وصْفه الدقيق على الوسائل التقنية والمنجزات الآتية: البابور (الباخرة) وبابور البر (القطار) والسلك (التلغراف) والمطبعة ومعامل الفحم الحجري. ففي وصفه للبابور لم يكتف بذكر ما التقطته عينه وهو في الباخرة، إنما عزز خطابه الوصفي بذكر جملة من المعطيات التي تندرج في باب الثقافة الخاصة بالباخرة. ولو أعدنا ترتيب مكونات الوصف لوجدناها شملت: تاريخ ظهور البابور؛ قصة ابتداع البابور؛ صانع البابور؛ الشركة صاحبة البابور؛ حقوق الملكية الصناعية؛ طريقة تشغيل البابور؛ المكونات والعناصر الموجودة فيه؛ العاملون فيه؛ ثمنه؛ شروط ركوبه؛ أصناف الخدمات فيه؛ الضيق والحرج الذي يحصل عند ركوبه؛ أجواء المرح فيه؛ احتكاره في البداية من لدن الملوك وانتقاله في ما بعد إلى التجار؛ علاقة المغاربة بالبابور؛ مسارات البابور البحرية... وقد فعل الشيء نفسه في وصف القطار الذي سماه بابور البرّ، حيث ركز على تسمياته وطريقة اشتغاله، ونقَل تفاصيل وجزئيات عن سكة القطار من حيث وضعُها ومكوناتُها، وكأنه متخصص في صناعة هذا النوع من التقنيات.
32لقد مكّنتْ الآليات المذكورة الغيغائي من الامتلاك الجيد لموضوعه، وتقديمه من خلال خطاب أدبي رتّب فيه مجموع المعارف التي حرص على إيصالها إلى المتلقي، مستثمرا ذخيرته المعرفية المكتسبة في مجالات مختلفة، مما جعل نصه الرحلي مصدرا من مصادر معرفة العصر وأحواله، كما يتضح من العناوين الآتية:
33يكتشف الناظر في الخطاب الرحلي للغيغائي أن المؤلف وهو يكتب رحلته كانت تحركه هواجس متعددة في مقدمتها هاجس التأريخ بمعناه الشامل، فيتحول الرحالة من كاتبٍ عن الذات موثّقٍ لتجربتها الرحلية، إلى مؤرخ يحرص على أن يكون صاحب شهادة تاريخية، يستجمع فيها كل المعطيات التي تفيد في وضع تاريخ عام للمجتمعات والأنظمة التي حظيت باهتمامه خلال السفر. وقد أثرى هذا الهاجس التاريخي المعارف التي نقلها الغيغائي، وجعلها تلامس جوانب وأبعادا متنوعة جعلتْ من نصه مصدرا مهما في التاريخ بأنواعه المتعددة: التاريخ السياسي، والتاريخ الديني، والتاريخ الاجتماعي... إن انفتاح النص الرحلي واستيعابه لأجناس القول وأشكاله المتباينة، فسح المجال أمام الغيغائي لتقديم معطيات تاريخية على شكل استطرادات صبغتْ نصه بطابع الوثيقة التاريخية، حيث صار المتلقي أمام نص متعدد الأصوات، يتجاور فيه صوت الرحالة الأديب مع صوت الفقيه وصوت المؤرخ وصوت الإثنوغرافي...
- 29 الخليفة العثماني السلطان عبد المجيد (1823-1861م).
- 30 يقصد راية الروم.
- 31 القنصل الإنجليزي بجدة.
34ولعل أبرز مثال على شهادة الغيغائي التاريخية أنه كتب عن وقائع بمكة بوصفه شاهد عيان على بعضها، ومحققا ومدققا في نقْل ما رواه الناس له مما لم يكن عليه شاهدا، يقول: "ووجدنا بالينبوع خبر ما وقع بجدة في آخر شوال عام 1274ه، وهذا الواقع الذي وقع بجدة هال الناس هولا عظيما وخافوا منه برّا وبحرا، وذلك أن أهل جدة قتلوا النصارى المعاهدين عندهم الجالسين وكلاء للخبر والتجارة، وسبب ذلك أن رجلا من أهل الهند أو اليمن من عدن، وهو فم الهند التي ملكها في هذا الوقت الجيل النكليزي منذ سنين، وكان يتجر مع رجل من النصارى ويسافر معه، ولهذا الرومي سفينة، وللرجل المسلم غلام ملكه على العادة، وجعل يسافر ويتجر في البحر أعواما فأعتقه سيده وملك أموالا من البحر لأنه رئيس معلم، ومات سيده وبقي يتجر مع الرومي المذكور، فلما كان في هذا العام قام هذا المملوك المعتوق فنبذ دين النصارى ونبذه إياه ونصر السلطان عبد المجيد29، ونزع من سفينته علام30 الروم وعلق بها علام السلطان المذكور. فلما رجع من سفره إلى جدة نظر صاحبه إلى السفينة وإذا فيها علام الإسلام... وعمد إلى السفينة وكسر علام السلطان... ووصل هذا الخبر المسلمين... ودخلتهم الغيرة الإسلامية... فلما شاع عند الناس أن كبيرهم هو الذي أمره بفعله ذلك... راودوا الباشا أن يتركهم يشفون غيظهم منهم... وأرسل إليهم هو عسكريين فضربهما الرومي القنصو31 بالرصاص من داخل داره، فحينئذ اجتمع المسلمون ودخلوا عليه... ولما قتلوهم عمدوا إلى ديارهم وأموالهم فنهبوها عن آخرها... ولما قدم الباشا الكبير من مكة وجد هذا الواقع والأمر المفضح قبض من حضر القتل ومن باشره..." (ص 150، 151).
35وبعد سرد الوقائع بالتفصيل، والتي تصرفنا في نقلها، عقّب على ذلك بقوله: "ووقوع هذا في آخر شوال المذكور، وبعضه في أيام التشريق والناس بمنى، والبعض وقع في آخر الشهر من ذي الحجة، ونسرده إن شاء الله متواليا باختصار، إذ كان منه ما وقع قبل وصولنا كقتل النصارى المذكورين، ومنه ما وقع ونحن بمكة مثل ضرب النصارى إياها بالمدافع..." (ص 152). وبعد تأكيد الرحالة على منهجه الدقيق في نقل الخبر وروايته، استرسل في سرْد تفاصيل المعركة وما ترتب عنها، خاصة بعد تدخُّل السلطان وإعطائه الأمر بإلقاء القبض على من قتلوا الروم من المسلمين، إلى أن يقول: "ولما رجعنا من زيارة المدينة المنورة ورسول الله (ص) سيد البررة، ووردنا ينبوع البحر، التقينا من سجناء أهل جدة ستة وثلاثين رجلا، كل اثنين منهم في كبل واحد، قدم بهم باشا وارد من طرف السلطان حملهم إلى اصطنبول، وركبنا معهم في البابور الوارد من جدة حمل الحاج وحمل معه هؤلاء السجناء..." (ص 155).
36ومن مآتي غنى نص الغيغائي بالأخبار التاريخية، حرصه على التعريف بالسلاطين والأنظمة كلما همّ بالحديث عن بلدة، أو جماعة بشرية، أو عمران، أو عادة اجتماعية وثقافية معينة،كما في سياق تفسيره لأصل اللباس الأسود وانتشاره بمصر، وإحالته على تاريخ ابن خلدون في ترجمته لصلاح الدين الأيوبي، قائلا: "وصلاح الدين بن أيوب المصري قدس الله روحه ونور ضريحه، مكث في الخلافة نحو أربع وعشرين سنة كلها في الفتوحات بالشام وأحوازها، وهو الذي أخرج الإفرنسيس من دمياط بعدما أخذها وحصنها وكسر عساكره، وقبض ملكهم وسجنه بدار الطواشي بدمياط حتى أخذ فيه أموالا وأسارى. ومن أراد فضائل هذا الخليفة وسيرته، فليطالع تاريخ ابن خلدون، فإنه استوفى أخباره" (ص116). وكذلك الشأن في حديثه عن بلاد مصر بوصفها محطة مهمة في مسار الرحلة، نجده ينقاد نحو السرد التاريخي، فيخصص صفحات يذْكر فيها حُكم محمد علي باشا وخلفائه، وما تميزوا به من خصال سياسية واجتماعية وغيرها.
37يشكّل هذا النوع من المعرفة مصدرا من مصادر غنى رحلة الغيغائي وعلامة مميزة لها، باعتبار ما تحيل عليه من إفادات لها قيمتها على مستوى فهم الإطار الفكري والروحي المحدد لعلاقة الرحالة بعصره. ولعل أصول الخلفية المعرفية للغيغائي، وطبيعة شخصيته الميالة إلى الخطاب الديني، حفّزا الرحالة نحو بناء جزء من خطاب رحلته على قضايا وإشارات من صميم انشغالاته الدينية بشكل عام. وانطلاقا من رصدنا لتجليات الخطاب الديني ومكوناته في النص، يمكن إعادة تركيب الحضور القوي لهذا النسق المعرفي وفق مكونيْن نعتبرهما دليلا على النزوع الديني للكتابة عند الغيغائي:
38أولا: النزوع الفقهي من خلال الحضور اللافت لفقه النوازل في الرحلة، بوصفه مجالا من مجالات نبوغ نخبة الفقهاء المغاربة، خاصة في بلاد سوس وأحوازها. يتضح هذا الجانب في وقائع وأحداث من قبيل حُكم الشرع في ركوب البابور، باعتبار ما لاحظه الرحالة من مظاهر الازدحام والضيق أثناء الصعود إليه، وانتشار الأوساخ والنجاسة فيه، وما يترتب عن ذلك من استحالة قيام الفرد بواجبه الديني، أو قضاء حاجته الطبيعية. وقد استغرب الغيغائي عدم انضباط بعض الرّكاب لأداء الصلاة في وقتها "ظنّا منهم أن الصلاة لا تؤدّى إلا بالطهارة الكاملة بَدناً وبُقعةً، ولا ينظرون إلى الضرورة وأنها تبيح المحظورات، فيتركون الصلاة رأساً حتى يخرجون" (ص 65). في سياق هذا الوضع المأزوم في البابور، أورد الرحالة حكما فقهيا في النازلة يتعلق بتحريم ركوب البابور على هذه الشاكلة، "فقيل يحرم ركوبه على هذه الوجوه كلها كما أفتى به شيخ وقته... أبو عبد الله عليش شيخ المالكية استفتيناه في ذلك فأفتى بتحريم ركوبه على هذه الكيفية" (ص 65).
39ومن القضايا الطارئة ضمن مستجدات العصر التي وقف عندها الرحالة وتناوَلها بخلفية فقهية، قضية شُرب الشّاي ومدى مشروعيته من الناحية الدينية. فقد اضطر الغيغائي إلى استدعاء الأدلة في سبيل التأصيل الشرعي لهذه المادة التي هي جزء من نظام الأطعمة الموصوفة في نص الرحلة، بما هي دليل على نعم الله على الناس في ظل سلطان الإسلام المعظم ابن هشام، "ومن جملة هذه النعم العظام... هذا الأتاي (الوندريز) المشروب اللذيذ العزيز، الذي سنح به الوقت، وعجز عن إحصاء وصفه القول والنعت، وهو شراب مباح، ولا إثم فيه ولا جُناح، الذي منّ الله به على عباده المومنين فاستغنوا به من فضله العميم عن شراب الخمر، ولولا جوده بوجوده لعمّ شراب الأقداح جل البطاح" (ص 56)، ثم أورد قصيدة شعرية للفقيه الحاج حمدون الفاسي (ت. 1817م) أنشدها للسلطان مولاي سليمان بعدما ارتاب في شُرب الشاي، وعقّب على القصيدة بقوله "إلى غير ذلك مما قيل فيه من الأشعار والأقوال في إباحته وأصله" (ص 56).
40ومما استأثر باهتمام الرحالة تحليلا وتعليلا، مسألة الدخان وحُكم الشرع في التدخين، تلكم المسألة التي نالت جهدا معتبرا من الانشغال الفقهي للغيغائي، حيث أفرد لها فصلا خاصّا: "في ذِكر الدخان وهي التباغا عندنا...". فبعد أن قدّم ما يشبه وصفا أنثروبولوجيا للدخان، سرد جملة من الآراء والاجتهادات الفقهية حول التدخين، مع ميْله إلى الرأي الذي لا يحرّم الدخان، كما تجلى في تعقيبه على الحجاج المغاربة الذين يُنكرون على المشارقة، وتحديدا المصريين، شُربهم للدخان: "وأما أصحابنا أهل المغرب من الحجاج فإنهم إذا رأوهم وما هم عليه من شراب هذا الدخان ينكرون عليهم ويكرهونهم غاية الكره... ويضحكون ممن يشربه من فقهائهم... فإذا قلت لهم الدخان ليس بحرام، وإنما هو مكروه أو مباح بحسب اجتهاد الفقهاء يكفرونك أو يزندقونك، وذلك لقلته أو عدمه ببلادهم، سيما جبال دران [يقصد: درن]، وشاع عندنا بالمغرب، عند العامة، ما صدر عن شيخنا الإمام ابن ناصر رضي الله عنه في كراهيته لمن يستعمله، وذلك لما أدى إليه اجتهاده، وبنوا عليه أقوالا وصرحوا بتحريمه بلا دليل من كتاب وسنة صحيحة إلا ما كان من النقول الضعيفة أو الباطلة من الأوراق المحرفة أو المصحفة"(ص 119). ولقد كان موقف المغاربة هذا مناسبة استصحب فيها الغيغائي آراء الفقهاء بشكل مفصل، وبأسلوب يزاوج بين البُعد الأنثروبولوجي والبُعد الفقهي في موضوع الدخان والتدخين. ومما يلفت النظر في هذا السياق الفقهي، النزعة النقدية التي تميّز بها الغيغائي في تقييم موقف المغاربة من التدخين، مزيلا القناع عن وجه التناقض في حُكمهم على الأشياء دون الانتباه إلى أهمية تقدير الأحكام الشرعية وفقا للقواعد الفقهية المشهورة. وهكذا برر الرحالة إسهابه في هذا الخطاب الفقهي برغبته المبطنة في إعادة ترتيب مراتب الأحكام في ذهنية المغاربة، واستشعارا منه لخطورة انقلاب موازين الحكم في مستجدات العصر: "وإنما أكثرْت الكلام في الدخان لِما رأيت من أصحابنا المغاربة ينكرون عليهم غاية الإنكار كما قلنا، ويرون شراب الدخان من أكبر الذنوب... ودليله أنهم يهيّنون السرقة والنهب والغيبة والزنا وخطف أموال الناس والمضاربة، وهذه الأشياء كلها أعظم من شرْب الدخان، وهي عندهم أسهل وأهون منه، لِما يعتادونه من هذه الأمور ووجدوا عليها أهلهم كعوائدهم ومناكرهم هم في الأعياد والأعراس. والدخان لا يعتادونه ولا يألفونه، ولذلك عظّموا فعله، وكفّروا أهله لعدم التمييز بين الحرام والمباح والمكروه" (ص 124).
41وعلى النهج نفسه سار الرحالة في بسْط الحكم الفقهي في مستجد آخر يتعلق بالقهوة بوصفها ملازمة لشرب الدخان، مستعرضا تعلّات الذين يميلون إلى كراهيتها، واستهجان مجالسة متعاطيها، استنادا إلى مراجع فقهية مغربية، من قبيل السيد أحمد البدوي الفاسي، وأحمد زروق، والإمام اليوسي وغيرهم. ولعل التأويلات التي يقرأ بها الغيغائي سلوكات الناس ومواقفهم وتوجهاتهم تعطي انطباعا بأننا إزاء خطاب يقوم على المعرفة الأنثروبولوجية بواقع الناس وحياتهم الاجتماعية، كما سيأتي بيان ذلك في فقرة لاحقة.
42ثانيا: إسهام نص الرحلة في رسم الخريطة الدينية في عصر الرحالة، بما يجعل خطاب الغيغائي مساهمة أو مصدرا لجزء من التاريخ الديني والمذهبي خلال القرن التاسع عشر. فمنذ انطلاق الرحلة تتوارد المعطيات المتصلة بالأضرحة والزوايا، والطرق الصوفية، والمذاهب الدينية والفقهية، سواء في المغرب أم في البقاع التي عبَرها الرحالة متجها إلى الحج. إننا بصدد رصيد من المعلومات التي تفيد في تَمثّل جغرافيا دينية على قاعدة المتون الرحلية. فقبل انطلاق الموكب الرحلي نحو وجهته المشرقية، يبدأ الوفد بتقليدٍ مكرّسٍ في أدبيات الرحلة، والقصد هنا إلى زيارة الأضرحة ومقامات الصلحاء، تبرّكا وتعظيما لهم. وكلما وقف الرحالة على موقع أو مقام إلا واغتنم الفرصة لبسْط معارفه الموسوعية حول رجالات الزوايا، وشيوخ التصوف، وصفوة العلماء والفقهاء. فالرحلة بدأت بزيارة السادات المدفونين بأغمات، وكانت مناسبة للحديث عن رجالات هذه الحضرة، وذِكر ما يتصف به أولياؤها من فضائل الصفات وسعة العلم، وما يُنسب إليهم من كرامات. ومن هؤلاء السادات الشيخ العلامة الولي سيدي محمد بن سعدون الأندلسي، والولي السيد أبو مهدي، وأبو عبد الله الهزميري، وأبو محمد سيدي عبد الجليل بن ويحلان، وسيدي يعقوب الدغوغي... وكل هذا تبركا بهم وانتفاعا بأسرارهم وأنوارهم ومعارفهم. وقد وقف الرحالة كثيرا عند الحضرة المراكشية الزاخرة بالمرجعيات الدينية والروحية، واصفا أهلها بالقول: "أما ما كان من أمر الدين والعبادة فلهم حظ وافر من ذلك، ولهم مساجد كثيرة، وجوامع عامرة عظيمة بالعبادة تدرس فيها العلوم، والصلوات والأذكار في كل الأوقات، وسرد الآثار، ولهم طوائف وأوراد يلقونها ويذكرون الله تعالى بها، فمنها الطائفة الناصرية وهي الكثيرة، ومنها التهامية، ومنها المختارية، والقادرية، والغازية، ومنها التيجانية..." (ص 50).
43في هذا السياق، يرصد الغيغائي مظاهر العبادة والتدين عند المراكشيين، مع تقديمه لعدد معتبر من فضلاء مراكش وفقهائها القدماء والمعاصرين، وما يتميزون به خُلقا وعِلما (الصفحات: 51-53). وتشكّل "الزيارة" في مسار الرحلة عنصرا ثابتا حيثما مرّ الركب أو نزل: "وفي ليلة الأربعاء بِتْنا ببلد الشياضمة... ثم مررنا على ضريح الولي الأكبر الشهير سيدي سعيد... فزرنا وتبركنا منه، ونذكرهم وما بلغنا من خبرهم..." (ص 58). "وممن زرنا بها –يقصد الإسكندرية- من السادات الأعلام بعد الشيخ عبد الله الأمغاري، الإمام البوصيري رحمه الله... ثم زرنا بعده الشيخ الإمام العارف أبا العباس المرسي... وزُرْنا بإزائه سيدي ياقوت العرشي رحمه الله،... والفقيه الفاكهاني والإمام الزياتي والإمام الفاسي... وكذلك زرنا قبر نبي الله دانيال عليه السلام، وقبره مشهور بها في دهليز تحت جامع تنزل إليه من نحو عشرين درجة، وبهذه المدينة من الفضلاء والسادات غير هؤلاء، وفيها بعض الفقهاء مثل..." (ص 78، 79). ويقدم الغيغائي خلال مروره بالإسكندرية صورة عن الطوائف الدينية بالمدينة، وأماكن العبادة فيها، متقمصا دور الإثنوغرافي، إن جاز التعبير، في حرصه على نقل تفاصيل هذه التشكيلات الدينية، وما يتصل بها من معطيات في مجتمع تتعدد فيه الممارسات الدينية.
44يتعزز هذا الخطاب الديني بحديث الرحالة عمّا يشْبه خريطة المذاهب الفقهية وأعلامها في بلاد مصر، مشيرا إلى ظاهرة تعدد المذاهب وما يترتب عنها من انعكاسات في عدة مجالات. ففي القضاء، تصدر الأحكام وفقا لانتماء القاضي المذهبي؛ وفي الأزهر تجد الإمام الراتب بالأزهر مالِكيا، والإمام يوم الجمعة شافعيا؛ وفي مجال تلقي المعارف الدينية تكون مجالس العلوم وفقا لأهل كل مذهب على حدة. وقد دفع هذا الوضعُ الديني المتعدد الرّحالةَ إلى استحضار بلاده المغرب والمقايسة بين البلدين في المجال الديني، معتزّا بالوحدة الدينية والمذهبية للمغرب، ونزوع أهله إلى الاعتدال: "وهذا الغرب الجواني سلطانه علوي شريف، ودين واحد منيف، ومذهبه مذهب واحد لا مذاهب، ولا معتزل، ولا خوارج، ولا مانع ولا روافض، ولا جاحد ولا معاند، إلا ببعض المواضع من الثغور فيه معاهد... وأما أهل المشرق فأمم كثيرة، وطوائف متفرقة، وأديان مختلفة، واعتقادات فاسدة، وأحكام متباينة..." (ص 124، 125).
- 32 أدب الرحلات، حسين محمد فهيم، سلسلة عالم المعرفة، 1989، الكويت، ص 35.
45يمثّل البعد الإثنوغرافي في رحلة الغيغائي ركيزة الخطاب الوصفي فيها. وإذا كان موضوع الإثنوغرافيا كما هو متعارف عليه أكاديميا هو "الـوصـف الـدقـيـق والمترابط لثقافات المجتمعات الإنسانية"32 فإن بؤرة نص الغيغائي تكمن في الوصف الثقافي باعتباره جوهر الإثنوغرافيا، كما هو معهود في مجمل كتب الرحلات عبر التاريخ. وإذا كانت القيمة المضافة للنص الرحلي عموما تتأسس على الدور الفعّال لعملية التلفيظ verbalisation في نقل مشاهدات الرحالة وملاحظاته العينية، وتحويلها إلى خطاب قابل للتلقي والقراءة، فإن نصّ الغيغائي استطاع أن يحوّل مشاهداته ووصْفَه الثقافي إلى ملفوظات، وبأسلوب يجعل قارىء النص يتمثل ما هو مرئي وكأنه شاهدُ عيانٍ. ليس القصد هنا إلى وسْم الغيغائي بصفة الإثنوغرافي بالاصطلاح الحديث، ولكن التأكيد على أن كل الجوانب التي تناولها في وصفه للأماكن والمجتمعات التي زارها محوريةٌ في الوصف الإثنوغرافي للشعوب والبلدان. ونورد هنا للتمثيل بعض المجالات والجوانب التي تناولها الوصف:
46مجال المدينة/العمران: حظيت المدينة في خطاب الغيغائي باهتمام كبير على مستوى الوصف الإثنوغرافي، سواء منه ما يتعلق بالوصف الجغرافي، أم بالوصف الثقافي. في هذا الباب، وقف الرحالة على ستّ مدن بمثابة محطات رئيسية في رحلته بدءا بمراكش، فالصويرة، مرورا بمالطة، ثم الإسكندرية والقاهرة، وانتهاء بمكة. لم تكن مدينة مراكش نقطة انطلاق الرحلة فقط، بل إنها الخلفية التي يرى من خلالها الغيغائي العالَم كما أشرنا إلى ذلك سابقا، ولذلك كان من الطبعي أن يقدّمها وكأنها مدينة استثنائية في كل شيء، "فهي من أعظم مدائن الإسلام وأفضلها علما وعملا وصلاحا وخيرات جسام، واسعة الأقطار والأكناف، كثيرة البركات من كل الأنواع والأصناف، واسعة الرحاب، عامرة النواحي والأجناب، مربعة الأشكال، مزيلة الأتراح والأنكال، كثيرة المياه والأشجار، وأصناف الزروع والأزهار، وبها من كل الفواكه والثمار، ومن أطيب اللحوم وأصناف الأطيار، ومما لا يحصى كثرة من الأنعام وأجناس الخيل والدواب والإبل زادها الله خيرا على خيرها، ومن كل مكروه صانها وأهلها" (ص 47). إنه وصف ينمّ عن وجود علاقة وجدانية خاصة بين الرحّالة والمكان، ويجعل القارئ يتمثل المدينة ويتخيّلها وكأنها قطعة من الجنة في الأرض. ولذلك حرص الغيغائي على الإلمام بمختلف الميزات التي تميزها عن غيرها من مدن العالم، في سعتها وسعة دُورها وشوارعها وأسواقها وأفنيتها وأجنيتها. في هذا المقام، يعْقد الرحالة مقارنات بين ما يتمتع به ساكنة المدينة الحمراء من راحة السكن واتساعه، وبين ما تعانيه ساكنة مدن كثيرة في المشارق وبلاد النصارى من معاناة بسبب ضيق السكن وغلائه. وللتمثيل على هذه المفارقة، يَذكر أن أهل الحمراء اللمتونية يسكن الواحد منهم دارا واسعة "وبيوتا كثيرة ولا فوقه وتحته من يزاحمه، وإذا تزوج ابن عزل نفسه عن أبيه حياء، أو وقع له غيار مع ولده أو صهره... فارقه من يومه أو ساعته لوجود الدُّور وموضع السكنى شراء وكراء برخاء، وأين هذا من ذاك؟" (ص 48). بعد هذا الوصف المعبّر للديار المراكشية ينتقل الرحالة إلى الحديث عن أقواتها وأطعمتها وفاكهتها وثمارها وبهائمها وساكنتها بأسلوب ينطوي على معرفة دقيقة بتفاصيل حياة المراكشيين وتشعّباتها.
47أما مدينة الصويرة، فلم تنل من الوصف الإثنوغرافي غير خطاب الكرامة الذي يستدعيه ذِكرها، حيث "شاع على ألسنة الناس أن ساكنها سعيد، ومن مات بها فهو شهيد، ومن طغى فيها فإنه يموت بالحديد" (ص 59)؛ زيادة على الإشارات التاريخية إلى بانيها وما يتميز به مناخها من طيب الهواء، وساكنتُها من لينٍ ومودة وبشاشة وسرور، "وأكثرهم برابر السوس، ليس بوجوههم عسوف ولا عبوس" (ص 60). وبالاقتصاد نفسه في الوصف تعامل الغيغائي مع مدينة مالطة مشيرا إلى موقعها الجغرافي وسط البحر، وما بها من خيرات ونِعمٍ، بالإضافة إلى فوائد تتعلق بلغة أهلها، ووقوعها تحت سيادة الإنجليز، وموقعها الاستراتيجي تجاريا وعسكريا في البحر المتوسط.
48وخلافا لهاتين المدينتين، فإن الإسكندرية والقاهرة كانتا بؤرة الوصف في ما يتعلق بالحديث عن بلاد مصر، وفي وصفهما تجلّت قدرة الغيغائي وذكاؤه في مسْك الجوانب المهمة في حياة المجتمع المصري، وتقديمها في صورة حية يمتزج فيها الوصف الجغرافي بالوصف الثقافي والاجتماعي، كما يبدو من العناصر الموصوفة الآتية: بنيان الإسكندرية وعمارتها؛ مرسى الإسكندرية؛ أولياؤها وصلحاؤها وفقهاؤها؛ تشكيلاتها الاجتماعية (إثنوغرافيا الأجناس) والملل الموجودة فيها؛ فئة النصارى الماسكة بالمواقع والمناصب المهمة في المجتمع المصري؛ الصنائع والحرف وما يلازمها من طقوس؛ جينيالوجيا القاهرة (بانيها وكيف بناها وسبب تسميتها)؛ جامِع باشا محمد بن علي وهو من عجائب الدنيا، وطريقة بنائه وهندسته ومقارنة ذلك بغيره من الجوامع؛ تجهيزات الجامع وثرياته وأفرشته وما يحيط به؛ أزهار مصر وأشجارها؛ أحوال المصريين ومعاشهم وعلاقاتهم الاجتماعية وفرْجاتهم...
49أما مدينة مكة التي تُعدّ محطة الوصول في الرحلة، فوصَفها الرحالة وصفا يمتزج فيه البعدان الروحي والمادي، بوصفها مكانا يستمد بَركته من قدسيته ومركزيته في الممارسة التعبدية عند المسلمين. وقد انصب الوصف في مكة بجانب برَكتها على الخيرات والمظاهر التي تجعل منها بقعة لا يضاهيها مكان في الدنيا، كما هو مختزل في هذا الملفوظ الدالّ: "ومكة هي جنة الدنيا وحضرتها، وبها ما تشتهيه الأنفس وتستحسنه العقول، وما تتنعّم به الأجسام، وزادت بالبَركة على ذلك والكثرة من كل شيء ويزيد ولا ينقص" (ص 166).
50مجال التقنيات: ارتبط الحديث عن تقنيات العصر في كتب الرحلة بالدهشة التي أثارتها نتائج الثورة الصناعية وتأثيرها في نفوس المشارقة والمغاربة، في سياق اكتشاف الآخر الأوروبي. ولعل الغيغائي كان من أهمّ الرحالين الذين وقفوا على التفاصيل الدقيقة وهم يرصدون ويصِفون مظاهر التقدم عند الغربيين، والتي تُبرهن عليها هذه التقنيات الحديثة المنتقِل بعضها إلى بلدان المغرب والمشرق. ومن أبرز ما حظي بالوصف عند الغيغائي البابور (الباخرة) الذي وقف، إضافة إلى ما أشرنا إليه في فقرة سابقة، على أبعاد إثنوغرافية وأنثروبولوجية لهذه الآلة العصرية، والقصد هنا إلى نظام التراتبية داخل الباخرة والمعادِل للتراتبية الاجتماعية، حيث القمرة خاصة بفئة اجتماعية من الناس، مع ما تستلزمه من عناية وشروط رفاه مناسبة: "والقمرة من البابور بمثابة القبة الزاهية من البيت الحبور، مزوقة مزينة بأنواع الزينة والفرش الحسنة الفاخرة الرفيعة، معدّة للأكابر وأهل التجارة وأرباب الثروة والنظافة والنقاوة... ولها رجال واقفون للخدمة... نصارى حداق معلمون وبأيديهم بعض المسوح والمناديل، يمسحون بها كل ما رأوا ولو نخامة أو بصاقا..." (ص 60).
51 كما توقف الغيغائي مفصّلا في آلة التلغراف بما هي تقنية حديثة تعوض الطريقة التقليدية في نقل الخبر، إذ صار بإمكان مستعمليه الاقتصاد في زمن التراسل والتواصل. ولم يفُته أن يعبّر عن إعجابه بهذا الإنجاز التقني وما أحدثه من تأثير في حياة المجتمع، حتى عدّه من معجزات العصر، "وهذا السلك أيضا من العلامات الربانية والاستنباطات العقلية، فسبحان من يلقي في القلوب ما شاء متى شاء" (ص 85).
52وكذلك الشأن بالنسبة لبابور البر (القطار)، الذي نال إعجاب الرحالة خاصة في طريقة استعماله من طرف المصريين. ولذلك أفرد لهذه الآلة فقرات وصف فيها بالدقة كل ما يتعلق بالقطار، من حيث أصلُه وتسميته وطريقة اشتغاله، ومكوناته، وسكّته التي يمشي عليها، ونظام استعماله من طرف المسافرين، وما يقتضيه ذلك من إجراءات وعادات.
53ومن علامات العصر الموصوفة آلة الطباعة، حيث كان مروره بمصر مناسبة للوقوف، معاينةً، على الطباعة وما أحدثته في الواقع الثقافي والعلمي للناس. فلم يفُته أن يصف آلة الطباعة، ودارها (مطبعة بولاق)، والأنظمة الموازية لها من قبيل توزيع الكتب ونشرها، ونظام التصحيح والتدقيق اللغوي بها، واللجان العلمية المنقّحة لكتبها، ثم دوْر المطبعة في نشر الكتاب وتناقلِ المعارف وتبادلها بين الروم والإفرنج والمسلمين.
54مجال الطّباع والأخلاق: إن قارئ نص الغيغائي يجد نفسه أمام فقرات تُهيىء له المؤلِّف وكأنه على قدْر من الدراية بعلم الطباع، من حيث هو عِلمٌ يبحث في الطباع والمميزات الأخلاقية للفرد وعلاقة ذلك بالمجتمع والبيئة. لقد مكّنت طريقة الوصف التي انتهجها الرحالة في هذا المجال من توفير معطيات في الطباع والسلوك تكتسي بُعدا أنثروبولوجيا (أنثروبولوجيا الأخلاق) يساعد على فهم شخصية المجتمعات الموصوفة وقراءة سلوكاتها. ويستوقفنا في هذا المضمار على سبيل التمثيل بسْطه لطباع أهل الحضرة المراكشية، واستغراقه في ذِكر أخلاقهم وسلوكهم نحو الآخرين، مع إجراء مقارنة بينهم وبين أهل فاس، فالمراكشيون "أفضل الناس عشيرة، وألينهم عريكة، وأوسعهم صدورا، وأكرمهم وأكثرهم سرورا... لا متجبرين ولا متكبرين، يفرحون بالقريب ويولفون الغريب... وذلك لقرب ألفتهم للناس، وميلهم إلى القريب وإلى حبه وتوليته دون غيرهم من الناس، فإن الغريب عندهم محقور، وبعيد الوطن متروك مقهور. انظر إلى فاس وأمثالها فإن القريب عندهم مهمول، وقوله عندهم غير مقبول، وإن ملئت يده متاعا، وحسن لهم أخلاقا وطباعا، وهذا الطبع فيهم غريزي، وليس ببديهي" (ص 50).
55بل إن الغيغائي يذهب بعيدا في الوصف السلوكي والسيكولوجي للمجتمع، إن جاز التعبير، مفسرا السلوك والطباع بعوامل خارجية، كما يتضح في وصف طباع أهل الصويرة وتأثير البيئة في أخلاقهم، فالمدينة "طيبة الهواء مزيلة عن القلب الجوى، معتدلة الطبيعة بين الحرارة والبرودة، أهلها أهل لين ومودة، وبشاشة وسرور ومحبة" (ص 60). ولعل الشيء نفسَه فعل الرحالة وهو يسبر أغوار المجتمع المصري، يصف أخلاق المصريين ويصنفهم وفقا لطبائعهم وما يصدر عنهم من مواقف وتصرفات في مختلف الأحوال. وكان للنساء المصريات حظ وفير من وصف الرحالة الذي أبرز ميزاتهن عن غيرهن في فنون التواصل وقواعده، وما تنطوي عليه طبائعهن في مجال المعاملات الاجتماعية.
56مجال الزواج: في باب الزواج يقدم الغيغائي، خلال وصفه المجتمع المصري، سيرة إثنوغرافية لهذا الحدث الاجتماعي ناقلا تفاصيله الدقيقة، بدءا بتجهيز العروس وما يرافق ذلك من طقوس وعادات، وانتهاء بقدوم العروسة إلى بيت الزوج، مع رصْد بعض السلوكات التي لم يرُق بعضها مزاج الرحالة، خاصة في سياق المقارنة بين مصر والمغرب في بعض الظواهر المصاحبة للزواج، كما تعكس ذلك المؤشرات التعبيرية الآتية: "وأما أهل المغرب فإنهم يمنعون بناتهم من التزويج حتى يتعنسن، سيما أهل الثروة منهم، أو من له أدنى جاه ومال يترك بنته أو أخته إلى أن تمشط الشيب عن رأسها... وعندهم فعلة قبيحة شنيعة... وهذا أمر عجيب وهو عندنا هين مهمل" (ص 126). وقد كان وصف الزواج وذِكر مراسيمه مناسبة لتقديم بعض أشكال الفرجة عند المصريين وطرق الاحتفاء لديهم، مع الوقوف على معطيات لها صلة بأصول هذه الفرجات ومصادرها.
57مجال الأطعمة والأشربة: شكّلت عناصر التغذية ونظامها محورا من محاور اهتمام الغيغائي في وصفه الإثنوغرافي للمجتمعين المغربي والمصري. فرحلته تضع أمام القارئ رصيدا من المعطيات الإثنوغرافية والأنثروبولوجية حول أصناف الأطعمة والمواد الغذائية المتداولة في القرن التاسع عشر، خاصة في مدن مراكش وفاس والصويرة وبلاد مصر، مع ما يتصل بنظام التغذية من إحالات على الانتماء الاجتماعي وتراتبيته (نظام التغذية لدى طلبة الأزهر، وارتباط أنواع من الأكل بالخواص والكبراء في المجتمع المصري). ويَحسن الإشارة في هذا السياق إلى الاهتمام الذي أولاه الغيغائي لمادتي الدخان (تاباغا) والقهوة باعتبارهما طارئتين على أغذية المجتمعات الموصوفة، وتنطويان على تحولات اجتماعية وسلوكية في زمن الرحالة. ففي مصر انتشر تعاطي الدخان حتى صار ملازما للرجل والمرأة معا ليلا ونهارا، "وترى الرجل يجري وعمود الدخان طالع من فيه، أو هو نائم وقضيب الدخان لا ينزعه من فيه... والنساء كذلك يشربنه، وبعضهن في الأزقة والأسواق والشواب فضلا عن العجائز... وهو (أي الدخان) من التنباك، يعني طابة، وهي تباغا بلغتنا... ومن لم يشرب هذا الدخان فليس عندهم بشيء، ويتفاخرون بكثرة شربه سيما أكابرهم وأهل الثروة، وتلْقى الرجل المسكين لم يلبس إلا ما يواري به عورته، وهو لا يفارق هذا الدخان فما استفاده ينفقه فيه" (ص 118). أما عن الدخان في المغرب، فقد رصد الرحالة رحلة هذه البلوى وانتقالها إليه مستندا في ذلك إلى معطيات تاريخية، مع توصيفه لما أضافه المغاربة للدخان من مشتقات، خاصة طابة المسحوقة "التي عمت بها البلوى بالمغرب شيوخا وشبانا، سيما المدينة البيضاء فاس ونواحيها، وجبال الزبيب يشمونها فقيها ونقيها حتى النسوان" (ص 120). وكذلك الأمر بالنسبة للقهوة التي هي "أخت الدخان في المشارق ومرافقته في الأزقة والشوارع والنمارق، فبهما تلذذهم... وبهما إكرامهم لمن أرادوا كرامته، فإنْ ناولك الرجل قضيب الدخان أو فنجانا من القهوة... فقد أدى لك جميع الحقوق... وهكذا يشربها الأكابر والأمراء" (ص 122). وقد انتقلت القهوة على غرار الدخان إلى المغرب وعمّت أقطاره "وكثرت اليوم بمراكش، وطالما حصر الحكام أمرها واجتهدوا في دفعها، ولم تزدد إلا كثرة، والناس فيها إلا رغبة" (ص 124).
- 33 مما يعزز البعد السياسي في خطاب الغيغائي مواقفه المبثوثة في ثنايا النص الرحلي، من قبيل مناصرته للسلط (...)
- 34 خالد زيادة، ملاحظات حول تطور النظرة الإسلامية إلى أوروبا، الفكر العربي، عدد 31، سنة 1983، ص 135.
- 35 م.ن، ص 128.
58لقد كان محمد الغيغائي واحدا ممن ساهموا في إرساء نظرة المسلمين وتمثُّلهم للآخر الأوروبي، من خلال رحلته التي تعكس وجهة نظر لا تخلو من حمولات دينية وسياسية33، شكّلت الإطار المرجعي لمواقفه وتمثلاته، على غرار المواقف التي عبّر عنها السفراء والرحالون والأدباء المسلمون في كتاباتهم، باعتبارهم مصدرا لتشييد تَمثُّل المسلمين ونظرتهم إلى الأوروبيين المسيحيين. ولعل من خصوصيات نظرة المغاربة إلى أوروبا خلال القرن التاسع عشر وما قبله، أنها كانت محكومة بالسجال الديني من جهة، نظرا لانتماء أصحابها في معظمهم إلى النخبة الدينية، ومن جهة أخرى متسمة بروح العداء، حيث "تميزت العلاقات بين المغرب والدول الأوروبية المجاورة بالعداء المتواصل، بسبب النزاعات العسكرية أولا، ثم حول مشاكل القرصنة في المتوسط، هذه المشاكل كانت تؤدي تلقائيا إلى اتخاذ مواقف سياسية معادية"34. ويتضح من مواقف الغيغائي في رحلته أنه بقي وفيا في نظرته إلى الآخر لطبيعة النظرة السائدة لدى المسلمين تجاه أوروبا في المرحلة الكلاسيكية، حيث "استندت فيها النظرة إلى الموقف التقليدي الإسلامي الذي يقسم العالم إلى داريْن، دار الإسلام ودار الحرب. ولاشك، فإن النظرة الإسلامية إلى أوروبا، وخلال هذه المرحلة المديدة، قد تأثرت بشكل خاص بالصراع مع بيزنطة التي هي أيضا ممثلة للمسيحية"35. في هذا السياق يمكن وضْع الكثير من الأحكام والتمثلاث الصادرة عن الغيغائي وفهْمها، خاصة حين يتعلق الأمر بشحنة الكراهية التي يكنّها الرحالة للآخر (النصارى والروم)، كما هو ملحوظ في ملفوظاته الآتية:
59"... وكذلك عند نزوله ودخوله لبعض مدائن الروم، العدوّ المشؤوم" (ص 62)؛ "..والكفار لعنهم الله" (ص 63)؛ "... وتليها كنيسة النكليز أدام الله ذلهم" (ص 81)؛ "... ولكن هذا السلطان –أي عبد الحميد- دفع بعض ذل المسكوف وجلب لنفسه ومملكته ذليلين من هذين الجنسين -أي أجناس الروم في الإسكندرية- أذلهما الله، حيث استعان بهما وأطلعهما على عورته، ادام الله لنا حياة سلطاننا الإمام الهمام مولانا عبد الرحمان بن هشام، لأنه رضي الله عنه اشتغل بالمكائد العقلية والحيل الفكرية مع هؤلاء الأرجاس الكلاب الضارية الأنجاس" (ص 81)؛ "... وكنا نسأله عن سيرة الإفرنسيس دمره الله فيجيب عما رأى وسمع من أحواله" (ص 82)؛ "ومن دناءة هذا القطر المصري خِدمتهم النصارى، وإذا ركب النصراني مشى الفلاحون أمامه وخلفه" (ص 83)؛ "فإني رأيت في تاريخ ابن خلدون... أن سبب لباس السواد في النصارى، لعن الله جميعهم..." (ص 116)؛ "والروم المقتولون من الأجناس الثلاثة المسك والنكليز وفرانسيس لعنهم الله" (ص 151)؛ "ثم إن النصارى لعن الله دينهم ودمّرهم..." (ص 152).
60لا شك أن للسياقين التاريخي والسياسي أثرهما الفعال في بناء تصورات الغيغائي ورؤاه في ما يخص علاقته بالآخر، كما أن الإطار المرجعي، متمثلا في الإسلام بأفقه الثقافي المغربي، يشكّل مصدر إلهام للرحالة وهو يكتب عن الآخر، ويحاول أن يُموْقع ذاته المغربية مقارنة مع ذوات أخرى مغايرة، وفي ظل هذه المقارنات التي يجريها الغيغائي نجده ينتصر دائما للذات بالرغم من إقراره أحيانا تفوُّق الآخر وقوته المادية. ويمكننا عموما استخلاص أن الغيغائي يشيّد تمثلاثه بناء على ثلاثة عناصر:
61أولا، التصورات الذهنية التي استقاها الرحالة من التاريخ والواقع، خاصة ما يتصل بالوقائع التي توحي بهزيمة المسلمين أمام الآخر العدوّ؛
62ثانيا، المقارنات التي يجريها الغيغائي بين مشاهداته أثناء الرحلة وبين المرجع المعيار المتمثل في المغرب ومراكش، بحيث يصير مجال الانتماء الجغرافي والثقافي بؤرةً موجِّهة لنظرة الرحالة، ومرآةً يرى من خلالها الغير؛
63ثالثا، الغيرية بما هي انتصار للذات من خلال إبراز خصوصيات الآخر المختلف، بالتركيز على الجوانب المبخَسة فيه، والمظاهر المنقصة من صورته.
64في خاتمة هذا المقال، نخلص إلى أن محمد الغيغائي الوريكي يمثل نموذجا من نماذج مثقفي البادية المغربية في القرن التاسع عشر، استطاع بفعل عوامل عدة، يرجع بعضها إلى طبيعة تكوينه وبعضها الآخر إلى السياق التاريخي والثقافي الذي عاش فيه، أنْ يكتب نصّا رحليا يرصد فيه تجربته الذاتية خلال رحلته إلى الحجاز. وفي الوقت الذي كان الغيغائي يكتب عن ذاته، كان في الآن نفسه يسعى إلى كتابة الآخر، فشيّد من خلال تجربته تلك صورة عن الذات المغربية عموما، وعن ذات الرحالة خصوصا، مستفيدا مما تتيحه الكتابة الرحلية من إمكانات وصفية ترتكز على ما هو مغاير إثنوغرافيا وأنثروبولوجيا.
65لقد مثّلَت الذات المغربية بآفاقها المتنوعة مركز التفكير والنظر عند الغيغائي، وهو بذلك تمثيل للنموذج المتمركز حول الذات في مقابل الرؤية المتمركزة حول الآخر، والتي سادت كتابات كثير من الرحالة المسلمين والأجانب. إن نص الغيغائي جاء حافلا بخطابات متنوعة تعكس موسوعيته على مستوى المعارف التاريخية والدينية والاجتماعية، والتي كشفت في طريقة بسْطها عمّا يتميز به الرحالة من حسّ منهجي ينمّ عن امتلاكه أدوات منهجية وتحليلية، مكّنته من تفكيك المعارف والظواهر التي تناولها في نصه، تفكيكا لا يقل قيمة عمّن يَصْدرون في مقارباتهم عن المناهج الحديثة. ولعل مأْتى تميز النص الرحلي للغيغائي، بجانب ما ينطوي عليه من تَمثّلٍ للذات وللغير، ما يزخر به من خطابات معرفية متعددة المشارب والمصادر، وما يحمله من هواجس تعكس أفق نخبة من نخب المغرب المثقفة زمن الغيغائي.